عبد الرحمن بدوي.. في سفينة الوجودية الغارقة

25 يوليو 2015
(بدوي في بورتريه لـ على المندلاوي/ العراق)
+ الخط -

لُقّب عبد الرحمن بدوي (1917-2002) بـ "الفيلسوف الوجودي العربي". قد يكون لقباً لاقى ترحيب المفكّر المصري، لكنه يبدو اليوم سبب انطفاء الحضور الذي كان عليه في منتصف القرن العشرين. لقد ظلمته الوجودية نفسها، إذ أنها منذ عقود لم تعد تعني الكثير لمتابعي حركة الفكر في العالم.

يبدو حال الفلسفة الوجودية مثل سفينة عملاقة، أطلقت في ساحة الفكر أسماء وكرّستهم كنجوم، فلما غرقت سحبتهم جميعاً معها. ففي فرنسا، الأرض التي أينعت فيها، يستعاد اليوم رموزها مثل جان بول سارتر أو ألبير كامو في الغالب من خارج إطارها.

وينطبق الأمر على بدوي كذلك، حيث أن استعادته ترجع بالأساس لكونه أحد أهم ناقلي ما وصله الفكر العالمي إلى اللغة العربية، خصوصاً بفضل تمكّنه في آن من أهم لغات التفكير الفلسفي في عصره؛ الألمانية والفرنسية، إذ يحتل بدوي مكانه المرموق بفضل مشروعه "خلاصة الفكر الأوروبي" وهو مجموعة من المؤلفات ذات نفس تدريسي مرّرت إلى الأجيال التالية فكر شوبنهاور وكانط وهيغل ونيتشه وهايدغر وآخرين.

أثناء دراسته في ألمانيا، في ثلاثينيات القرن العشرين، التقط بدوي فكرة تبنّاها الجيل الصاعد من المفكّرين؛ مفادها أن الوجود الإنساني هو القاعدة التي لا ينبغي أن تسبقها مسلّمات أخرى، وهو ما سيفتح أبواب الحرية الفكرية ليتدافع الفلاسفة منها، حتى أن هايدغر وهو في ذروة مجده كرّس لها سنوات مهمة من حياته.

حين عاد بدوي إلى مصر، عاد بأفكار هايدغر حول "الزمان الوجودي" ليقتحم أراض لم يطرقها الفكر العربي من قبل. صحيح أنه أتى بآخر صيحات الفكر الأوروبي، لكنه لم يساير تطوّرها، فواصَلَ الاشتغال على نفس الاتجاه رغم تغيّر السياقات والمناخات في العالم.

إن عملية ترجمة هايدغر ذاتُ دلالة خاصة، إذ إن بدوي هو أوّل من نقل الفيلسوف الألماني إلى العربية، لكن ذلك كان قبل أن يكتمل هايدغر في الألمانية، فحين ننظر إلى مجمل ما أنجزه الفيلسوف الألماني (وهذا المنجز لا يمكن أن ينتهي إلا بنهاية حياته)، لن نعتبر الوجودية سوى لحظة فكرية مرّ بها، ولعلّ هذا الأمر كان سبباً في تأخر استيعاب الفكر العربي لهايدغر.

في الوقت الذي هجر فيه الفكر العالمي الوجودية، كان بدوي يشتغل بأقصى طاقته على إيجاد جذور الوجودية في التراث العربي الإسلامي. عملٌ وإن كان قد غرس الفكر الوجودي أكثر فأكثر في التربة العربية، إلا أنه بعد جيل واحد لن يجد من يسقيه ويسهر عليه، وهي التي تحوّلت لرديف للإلحاد، بسبب أن أشهر من تبنوّها ألحدوا، وهي فكرة مغلوطة سعى بدوي لتبديدها.

في لحظة ما من مسيرته، وكأن المفكر المصري أحسّ أن الفكر الذي يتبنّاه يفضي إلى مضيق، فانبرى يوظف إتقانه للغة الألمانية في نقل آدابها إلى العربية. وهو من هذا المنظور يعدّ من أهم همزات الوصل بين اللغتين العربية والألمانية.

في آخر أعماله المنشورة؛ كتاب مذكراته "سيرة حياتي"، أضاء بدوي الكثير من النقاط حول مسيرته، لكنه بالخصوص كشف عن الكثير من سوء ظنه بمن اعتُبِروا "رموزاً" مثل جمال عبد الناصر وطه حسين وسعد زغلول. كما يطغى في هذا العمل شعور بدوي بسوء تقدير الوطن له.

إن سيرة عبد الرحمن بدوي، تقدّم عيّنة لحياة مفكر عربي يكرّس جهده في مسار لا يلبث أن يرى بنفسه أنه يفضي إلى طريق مسدود. هنا، عادة ما يجد المفكر نفسه في خيار بين التوقف أو إعادة البناء من الصفر أو مواصلة الطريق معتمداً على المغالطات.

بدوي اختار في لحظة ما الخيار الأول، وهو الذي وصلتنا معه الوجودية متأخرة، وصلت وهي تدخل مرحلة الاحتضار. لعل الكثير من الأفكار التي نتناقلها اليوم صارت كذلك، ولن نتفطّن للأمر إلا بعد عقود.

دلالات
المساهمون