يبدو أننا في العام المقبل، في مثل هذا اليوم، سنستعيد ذكرى رحيل شاعرين بدلاً من واحد؛ صلاح جاهين، الذي رحل قبل 29 عاماً، وعبد الرحمن الأبنودي، الذي رحل اليوم في القاهرة عن 76 عاماً، أتمّها قبل عشرة أيّام.
منذ طفولته، التي أمضاها في بلدته أبنود، إحدى قرى محافظة قنا في صعيد مصر، والأبنودي (1939 – 2015) مأخوذ بأغاني السير الشعبية التي كان ينشدها شعراء الربابة في بلدته؛ أبزرها تغريبة بني هلال، التي جمعها بعد ذلك في كتاب "السيرة الهلالية".
مع رفيقيه الجنوبيين، أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله، انتقل "الخال" شابّاً إلى القاهرة. هناك، بدأت مسيرته الشعرية بمجموعته الأولى، "الأرض والعيال" (1964)، التي استعاد فيها يوميات الصعيد وتفاصيله.
وفي 1968، أصدر مجموعته البارزة "جوابات حراجي القط"، التي صوّر فيها أحلام المصريين أثناء بناء السد العالي، ورصد التحولات الاجتماعية في مصر آنذاك، من خلال المراسلات ما بين عامل صعيدي (يشارك في بناء السد) مع زوجته.
بين هاتين المجموعتين، عايش الأبنودي أحداثاً سياسية كثيرة، أبرزها نكسة عام 1967، التي أدّت إلى انعزال كثير من الشعراء والفنانين آنذاك. لكنّ صاحب "الأحزان العادية"، لم يفضّل هذا الصّمت؛ بل كتب قصيدته الشهيرة "موّال النهار"، التي غنّاها عبد الحليم حافظ، ولحنها بليغ حمدي، في سعيٍ إلى استنهاض العزيمة من جديد: "أبداً.. بلدنا للنهار/ بتحب موّال النهار/ لما يعدّي في الدروب/ ويغنّي قدّام كل دار".
التزم الأبنودي في قصائده بالهمّ العام، مصريّاً وعربيّاً، فما من حادثةٍ إلّا وكان له فيها مقولة شعرية. من القصائد اللافتة، كانت "موت على الإسفلت"، في استشهاد رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، ومنها:
"أماية… وإنتي بترمي بالرّحى.. على مفارق ضحى/ وحدك وبتعدّدي/ على كل حاجة حلوة مفقودة/ ما تنسينيش يا أَمّه في عدُّودة/ عدُّودة من أقدم خيوط سودا في توب الحزن/ لا تولولي فيها ولا تهللي.. وحطي فيها اسم واحد مات/ كان صاحبي يا أمه.. واسمه: ناجي العلي".
لكن يبدو أن هذا الالتزام السياسي والإنساني، لم ينسحب على كل القضايا التي عايشها الأبنودي الذي عُرف بقربه من النّاس كما يجدر بشاعر عامية. فمع الانقلاب العسكري قبل قرابة عامين، راحت شعبية صاحب "أنا والناس" تنحسر(سبقتها انحسارات أخرى في زمن مبارك)؛ بسبب تأييده للثورة المضادة، وشكّل ذلك مفاجأةً لمحبّيه، إلى درجة أنّ بعضهم لم يخفِ عدم اكتراثه برحيل "الخال".