يأتي عبده الحامولي من زمن كان المطرب يغني فيه جالساً، وحتى الآن لا يُعرف تاريخ الموسيقى متى بدأ الفنانون العرب يقفون في حفلاتهم، هل كانوا متأثّرين بالغناء الغربي؟ هل لأن كثير من المطربين تخلّوا عن عزف العود أثناء الغناء؟ أم هل بسبب انتشار المسرح الغنائي؟
لا نعلم، لكن ما نعلمه من مصادر التاريخ أن الحامولي كان يجلس على الكرسي، يديه مزيّنة بالخواتم الثمينة، ويرتدي الطربوش الاسطنبولي بعد أن أصبح أفندياً ولبس البدلة وهجر الجلابية، يُمسك في يده اليمنى سبحة من الكهرمان، ويفرك في يده الأخرى قطعة من العنبر بينما هو يغني "دا انت حبيت ورجعت تندم"، أو "يا قلبي مالك"، أو "من قبل ما أهوى الجمال" أو "في البعد ياما"، فيطرب الخديوي الذي كان مفتوناً بصوته حتى أنه منعه أن يغني في أي مكان آخر غير قصر الخديوي نفسه وسهراته من دون إذن خطي منه شخصياً.
لم تكن رحلة الحامولي إلى قصر الخديوي والسميعة من الطبقة الأرستقراطية سهلة، حيث اختير ليغني في ما يعرف بـ "فرح الأنجال" أبناء الخديوي إسماعيل؛ توفيق وحسين وحسن، حيث غنى دور "الله يصون دولة حسنك".
بدأت قصته مع الفن كما يقال حين غضب شقيقه الأكبر من والدهما القاسي، فأخذ أخيه الأصغر عبده وهرب به من البيت وفي الطريق أهلكهما التعب فعثر عليهما المعلم شعبان واستضافهما، وكان يعمل في تنظيم الحفلات الموسيقية، وحين سمع عبده يغني بدأ يصطحبه معه في الموالد في مدينة طنطا، قبل أن يأخذه إلى القاهرة ليغني كل ليلة في "قهوة عثمان آغا" في حديقة الأزبكية، وكانت من أشهر المقاهي في مصر آنذاك، وسرعان ما ذاع صيت الحامولي وأصبح الناس تتهافت أكثر فأكثر على المقهى فقط لتسمع الشاب الصغير يصدح بالغناء.
بعد صراع واستغلال مع المعلم شعبان سيتركه الحامولي ويلتحق بفرقة المعلم محمد المقدم، ثم يلتقي بشاكر أفندي الحلبي الذي كان أهم من كان يقدّم الأدوار والموشحات في ذلك الوقت، فيعلّمه أصول الغناء، هكذا إلى أن ينفصل الحامولي ويؤسّس فرقته الخاصة، وكان يلحّن له أغانيه الموسيقي محمد عثمان وهو والد الممثل عزيز عثمان الذي يعرف اليوم في تاريخ السينما باسم شخصية حسن بلالايكا في فيلم "لعبة الست"، وهو من أدى أغنية "بطلوا دا واسمعوا دا".
شاءت الأقدار أن يسمع الخديوي إسماعيل صوت الحامولي الذي أصبح ذائع الصيت، فأستأثره لنفسه، وأخذه معه إلى الأستانة في اسطنبول، وهناك التقى بالموسيقى التركية ولا بد أنه حمل شيئاً من مقاماتها إلى موسيقاه الشخصية التي حملتها مساحة صوته الكبيرة، إذ يقال إن العازفين كانوا يضطروا أحياناً إلى التوقّف، خاصّة عازف القانون، لعدم قدرتهم مجاراة الدرجات التي يصل إليها صوت سي عبده.
لحّن للحامولي كبار الموسيقيين في عصره، مثل أستاذ التلحين والطرب محمد عبد الرحيم المسلوب الذي عاش 135 سنة، وكان من مواليد القرن الثامن عشر، ومن أهم الموسيقيين في زمن يمتد بين ثلاثة قرون. وكان في بطانة "سي عبده" الفنانين الكبار عبد الحي حلمي والمنيلاوي الذي غنى خلفه في إحدى المناسبات. وغنّى عبده أشعار محمود سامي البارودي، وإسماعيل صبري باشا، والشيخ عبد الرحيم قراعة مفتي مصر في العشرينيات من القرن الماضي.
ولا يمكن الحديث عن الحامولي من دون الحديث عن الفنانة ألمظ التي لقّبت بهذا لجمال صوتها، التي تتضارب الأخبار حول أصولها وسنة ولادتها أيضاً، فهناك من يقول إن والدها كان بناء وأنها تعلمت الغناء وهي تساعده في العمل، وهناك من ينسبها إلى عائلة برجوازية وأنها ابنة الشيخ الأزهري سلميان الحلبي، وكان صاحب مصبغة في باب الخلق، ويقال إنها كانت تلميذة "ساكنة بيه" وهي "عالمة" من ذلك الزمان.
كانت ألمظ تشارك الحامولي في الحفلات، هي في الحرملك وهو في السلاملك، وكثيرة هي المقولات التي تتحدّث عن حبهما والتراسل بينهما عن طريق الغناء، ولا يوجد ما يثبت صحة ذلك، لكن الأكيد أن قصة الحب هذه قادت نجميْ الغناء في عصرهما إلى الزواج، وما أن تزوجت ألمظ والحامولي حتى منعها من الغناء، وأشيع أنه تزوجها لأنها كانت منافسته الوحيدة وكان صوتها أقوى من صوته بالفعل، وكانت هذه طريقته إلى منعها، وقد ماتت مبكراً في عمر 36 عاماً ومات بعدها ابن الحامولي محمود من زواج آخر، فقد تزوج عبده خمس مرات.
قبل رحيله بفترة قصيرة، سجّل أعماله على أسطوانات شمعية ولكن ما تبقى منها عدد قليل جداً، ورحل مريضاً بالسل. ورغم أن معظم المصادر التاريخية حول الحامولي تستعين بكتاب "الموسيقى الشرقية والغناء العربي" لقسطندي رزق الذي صدر عام 1936، ولكن تبين مع الوقت أن معظم ما كتب من أخبار عن الحامولي في هذا الكتاب ليست دقيقة، وأن رزق كان قد قدّم الحامولي كوليّ من الأولياء الصالحين بل ويصفه باسم المصلح الاجتماعي، لشدّة حبّه للفنان، ولقربه من الخديوي والعائلة المالكة بالعموم.