13 نوفمبر 2024
عام على حصار قطر.. الأزمة تخلط مواقف الدول وحساباتها
بمرور عام على الأزمة الخليجية وحصار دولة قطر، أصبح ممكناً إجراء تقييم شامل للآثار التي تركتها الأزمة على غير صعيد. وإن كانت جوانب الأزمة الاقتصادية والإنسانية والقانونية والإعلامية قد جرى تناولها بإسهابٍ خلال العام، نظراً إلى حجم المعاناة التي تسببت بها لآلاف الأسر الخليجية، والتكاليف الاقتصادية التي تكبدتها أطراف الأزمة جميعا، والمستوى غير المسبوق من التراشق الإعلامي فيها، فإن تأثيرات الأزمة على المواقف الدولية وفعلها في النظامين الإقليمي والدولي ما زالت غير مطروقة بالمستوى نفسه من الاهتمام.
وعلى الرغم من أن دولة قطر صغيرة بمساحتها وعدد سكانها، وعلى الرغم من أن دول الحصار عمدت، على امتداد العام، إلى التقليل من أهمية الأزمة معها، على ما جاء في تصريحات غير مسؤول فيها، إلا أن واقع الحال يفيد بعكس ذلك، إذ حظيت الأزمة ولا تزال بأعلى قدر من الاهتمام الإقليمي والدولي، بدليل التغطية الإعلامية الواسعة التي تناولتها على مستوى العالم، والاستقطاب والتطاحن الشديد الذي نشب في عواصم العالم الكبرى، وفي مقدمتها واشنطن، على خلفية الأزمة، وشاركت فيه وسائل إعلام وشركات علاقات عامة وجماعات ضغط ومصالح، وشركات محاماة، ومراكز تفكير وجامعات وسياسيين ومفكرين ومشرعين، وتداخلت فيه قضايا السياسة بالمال والأمن والاستخبارات.
ولا يبدو هذا غريبا في ضوء أهمية أطراف الأزمة وأوزانها على المستويين الإقليمي والدولي، فلديك هنا أكبر مصدر للنفط في العالم، بأول احتياطات مؤكدة (السعودية)، وأكبر مصدّر للغاز المسال في العالم، بثالث احتياطات مؤكدة (قطر)، ودولة ثالثة تملك ثاني أكبر صندوق سيادي في العالم (الإمارات)، ورابعة تأتي أهميتها من مقدار الفوضى التي يمكن أن تحدثه في حال انزلاقها إلى مراتب الدول الفاشلة (مصر). فوق ذلك، يدور الصراع في منطقة تحوي 40% من احتياطات العالم من الطاقة، وتمده بـ20% من احتياجاته اليومية منها، ويبلغ مجموع الناتج الإجمالي المحلي لدول مجلس التعاون أكثر من 1.5 تريليون دولار، ويحتل بذلك المرتبة العاشرة في العالم بعد كندا وقبل كوريا الجنوبية، ويشكل 2% من الناتج الإجمالي
العالمي. أما سياسيا وفكريا، فيدور الصراع على روح المنطقة ومستقبلها ونموذجها التنموي، وتوجهها الفكري والحضاري، بين قوى التغيير وقوى السكون، بين أنصار التحول الديمقراطي وأنصار الحكم المركزي، بين اتجاهات الحداثة المتوازنة وسياسات اللبرلة منزوعة الليبرالية، وانعكاسات هذا الصراع على عالم عربي عدد سكانه 400 مليون نسمة، في منطقة تتنافس الهيمنة عليها أكثر القوى الكبرى.
من هذا الباب، استرعت الأزمة كل اهتمام من القوى الإقليمية والدولية ذات الشأن والمصلحة، من الصين إلى البرازيل مرورا بروسيا وإيران وتركيا وأوروبا وصولا إلى جنوب أفريقيا، وطبعا الولايات المتحدة التي لعبت إدارتها دور المفجر الرئيس للأزمة. فوق ذلك، غيرت الأزمة من طبيعة الاصطفافات على المستويين الإقليمي والدولي، وكانت دافعا إلى التعبير عن مواقف ما كان يمكن أن تتبلور دونها، حيث بدت كأنها تعبير عن حالة أزمة كبرى يعيشها النظام الدولي، بلغت ذروتها بوصول اليمين الشعبوي إلى الحكم في الولايات المتحدة، وتبنيه سياساتٍ أحادية، انعزالية.
مجلس التعاون.. أزمة مصالح وقيم
ظهرت تداعيات الأزمة أشد ما تكون في البيت الخليجي، إذ انجلى بفعلها دخان المجاملات والبروتوكولات، وانتهت ما تسمى محليا دبلوماسية "تقبيل اللحى" التي كانت تحاول إظهار وحدة البيت الخليجي وإخفاء انقساماته، كما أجهزت الأزمة نهائيا على الأفكار التي كانت تعلن حماسيا، وأحيانا اعتباطيا، بين الفينة والأخرى، مثل الانتقال نحو اتحاد خليجي، شبيه بالاتحاد الأوروبي، واقتراح ضم الأردن والمغرب إليه، وتبني سياسةٍ أمنيةٍ وخارجيةٍ مشتركة، وإصدار عملة موحدة، وإنشاء بنك مركزي خليجي، ومنطقة جمركية واحدة، واعتماد سياسة الحدود والأجواء المفتوحة، وغير ذلك من أفكار ومقترحات، بيّنت الأزمة كم هي بعيدة عن الواقع.
الأهم من ذلك كله أن الأزمة أخرجت صراعا مكبوتا إلى العلن، ليس فقط بشأن المصالح (كما تبدت في مصر وسورية وليبيا وغيرها)، بل أيضا بشأن القيم والأفكار والمبادئ والرؤى التي تحملها النخب الحاكمة الخليجية. ومثلت الأزمة ذروة هذا الخلاف الفكري والفلسفي الذي ظل يتفاعل أكثر من عقدين داخل مجلس التعاون، وبدأ مع وصول أمير قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة، إلى السلطة عام 1995، وإطلاق نموذجه الخاص في التنمية.
أطلق الشيخ حمد مشروعه الهادف إلى الانتقال ببلاده من مجتمع تقليدي محافظ إلى مجتمع أكثر انفتاحا، فأنشأ فروعا للجامعات ومراكز التفكير الأجنبية، واستضاف التيارات الفكرية العربية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وأطلق قناة الجزيرة لتكون منبراً إعلامياً يطرق القضايا والموضوعات التي كانت تعد في وقتها محرّمات في الفضاء العربي العام، محولا بذلك الدوحة إلى مركز تفاعل ثقافي وفكري، كانت تؤديه في الماضي عواصم عربية عريقة، مثل القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت. ووفرت قطر بذلك مساحةً لحرية الرأي والتعبير والتفكير والإعلام غريبة على أجواء المنطقة، وكرّست بهذا نفسها قوة تغيير في المنطقة، وخصما للنظم الأوتوقراطية التي راعها حجم التحولات التي أدخلتها قطر في هذا المجال، ودخلت في مواجهات معها بسبب ذلك، لكن قطر التي فتحت الباب أمام شكل من لبرلة الفضاء السياسي والإعلامي العربي ظلت مع ذلك مجتمعا محافظا يراعي التقاليد العربية الإسلامية، ويسعى إلى الحفاظ على هويته وتراثه، ما جعلها نموذجا فريدا في منطقتها. وعلى الرغم من أنها، مثل شقيقاتها الخليجيات، ظلت دولة ريعية، إلا أنها اختلفت معها أيضا في وسائل الريع، إذ راهنت على الغاز بدل النفط، وهو الرهان الذي أثبت نجاحه لاحقا.
بهذا، قدمت قطر نموذجا جديدا، وطريقا تنمويا وفلسفيا ثالثا في الخليج، يناقض النموذجين، السعودي المحافظ سياسيا واجتماعيا، والرافض أشكال التغيير، خصوصا الديمقراطي، والإماراتي المتحرّر اقتصاديا واجتماعيا، إنما المتشدّد في رفضه الليبرالية السياسية، خصوصا إذا كانت تأتي بقوى إسلامية إلى السلطة، باعتبار أنها تمثل نقيضه الفكري والسياسي والاجتماعي.
عندما اندلعت ثورات الربيع العربي، وجدت قطر الفرصة سانحةً للدفع باتجاه ترجمة الأفكار التي ظلت ترعاها وتروجها عقدا ونصف، أملاً في إنهاء الأحادية السياسية والفكرية التي هيمنت على العالم العربي، فيما برزت السعودية والإمارات بوصفهما قوتين رافضتين للتغيير، وداعمتين لنظام إقليمي سلطوي محافظ. وعليه، دخل المعسكران في مواجهاتٍ ومنافساتٍ في مصر وليبيا وحتى في سورية. وكشفت الأزمة الخليجية عن هذا الانقسام، وبيّنت حجم الشرخ الذي ضرب مجلس التعاون الخليجي، والمرارة التي يتسم بها الخلاف داخله، باعتباره يتجاوز المصالح التي يمكن التوصل إلى تسويات بشأنها، إلى صراع حول القيم والأفكار والرؤى، ما يجعل إمكانية حله أكثر صعوبة.
خلط الأوراق إقليمياً
بمقدار ما أدت الأزمة الخليجية إلى شرخ العلاقة بين الأشقاء في مجلس التعاون، فقد ساهمت في لم شمل الخصوم على المستوى الإقليمي، إذ أثمرت الأزمة على الفور تقارباً إيرانياً - تركياً هدفه الرئيس منع حصول تحول كبير في موازين القوى الإقليمية في حال نجحت دول الحصار في تغيير توجهات قطر الخارجية، أو السيطرة على إمكاناتها المالية وقدراتها الإعلامية والسياسية الكبيرة.
بالنسبة إلى تركيا، تعد قطر حليفها الرئيس وشبه الوحيد في العالم العربي، بعد سقوط مصر بيد المعسكر السعودي - الإماراتي عام 2013، وخسارتها تعني عزلة تركية كاملة في العالم العربي في مواجهة ثلاثي الرياض – القاهرة – أبوظبي، الساعي إلى إسقاط حكومة العدالة والتنمية ذات الميول الإسلامية المحافظة. وقد بدا واضحاً لكثيرين أن محاولة إخضاع قطر في العام 2017 ليست سوى استكمال للمحاولة الفاشلة التي حاولت إطاحة حكم الرئيس رجب طيب أردوغان في انقلاب عسكري في العام الذي سبقه. من هذا الباب، سارعت أنقرة إلى دعم الموقف القطري بكل الوسائل، بما فيها الدفاعية.
أما إيران فقد اعتبرت أن نجاح السعودية والإمارات في إخضاع قطر يعني تركز كثير من القوة والثروة في يد المعسكر الخصم، ولذلك سارعت حكومة الرئيس حسن روحاني إلى عرض المساعدة على قطر للتغلب على الحصار، ففتحت لها أجواءها ومياهها الإقليمية لنقل البضائع والمؤن والمواد الغذائية بأنواعها. وبادرت إيران للاستثمار في الأزمة، لإضعاف الموقف السعودي، فراحت تقدّم نفسها دولة موثوقة، يمكن الاعتماد عليها في حال قررت دول الخليج الأخرى الفكاك من محاولات الهيمنة السعودية عليها، كما تفعل قطر.
لهذه الأسباب، وجدت تركيا وإيران مصلحة مشتركة في التعاون، وإرسال رسائل مشتركة مؤدّاها أنها لن تسمح بأي تغيير في موازين القوى، أو في خرائط المنطقة، على الرغم من أن البلدين كانا مشتبكين منذ العام 2011 في حرب وكالةٍ شاملةٍ في سورية، وجزئيا في العراق بعد الانسحاب الأميركي، حيث كانت تركيا تحاول استعادة التوزان الإقليمي الذي اختل بانفلاش النفوذ الإيراني في المنطقة بعد سقوط بغداد.
ارتباك المشهد الدولي
إذا كانت الأزمة الخليجية فرّقت الأشقاء في مجلس التعاون، وقرّبت الخصوم والأعداء على مستوى الإقليم، فقد أبرزت دوليا حجم التناقض في المصالح بين الدول المهتمة بشؤون منطقة الخليج، فوفرت فرصًا لبعضهم، ومثلت تهديدًا لآخرين، كما أدت هنا أيضا إلى اصطفافات جديدة، على الرغم من أن الناظم العام للسلوك الدولي ظل يتمحور حول منع التصعيد، نظرًا لأهمية المنطقة وثقلها في الاقتصاد العالمي.
وفيما وجدت روسيا في الأزمة فرصةً للولوج إلى منطقة الخليج، وكسر الاحتكار الأميركي لها، بعدما نجحت في استعادة نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، بعد تدخلها في سورية، والنفاذ إلى العراق ولبنان بمساعدة إيرانية، حاولت فرنسا وبريطانيا التوسط، نظرًا إلى وجود مصالح اقتصادية كبيرة تربطها بأطراف الأزمة جميعًا. أما ألمانيا، فقد وجدت في الأزمة فرصة للتعبير عن غضبها من سياسات الرئيس ترامب عموما، واتجاه الأزمة الخليجية خصوصا. إذ طالب وزير الخارجية الألماني حينها، غابرييل زيغمار، برفع الحصار عن قطر قائلاً: "انتهاج مثل هذا الأسلوب الترامبي في التعامل مع قطر يشكل خطورةً كبيرةً جداً في منطقة هي في الأساس مشحونة بالأزمات".
أما الولايات المتحدة، فقد تحولت هي نفسها إلى طرف رئيس في الأزمة، بعدما ساهمت في تفجيرها. وكانت مشاركة الرئيس ترامب في قمة الرياض التي جمعته مع نحو 55 زعيم دولة عربية وإسلامية يوم 21 مايو/ أيار 2017 بمثابة الصاعق الذي فجر الأزمة، إذ جرت بعدها بيومين قرصنة وكالة الأنباء القطرية، ثم فرض الحصار على قطر بعد ذلك بأسبوعين.
كشفت الأزمة عن انقسام شديد داخل إدارة ترامب التي لم تكن قد أمضت ستة أشهر في الحكم. وكان الانقسام على أشده بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية، ففيما أيد الرئيس ترامب مواقف دول الحصار، طالب وزير خارجيته، ريكس تيلرسون، بضرورة حل الأزمة بطرقٍ سلمية. وقد بلغ الخلاف، في مقاربة الطرفين، ذروته عندما وجّه ترامب، في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الروماني الذي كان في ضيافته في التاسع من يونيو/ حزيران 2017، اتهامات لقطر بدعم الإرهاب، بعد ساعات فقط من كلمة ألقاها تيلرسون دعا فيها إلى تخفيف الحصار عن قطر.
وسارعت الدوحة إلى تركيز جهدها الدبلوماسي على إحداث تغيير في موقف البيت الأبيض، باعتبار ذلك مفتاح احتواء الأزمة، إن لم يكن حلها، وإفشال من ثم مساعي دول الحصار لضرب علاقتها بواشنطن التي كان يجهل ترامب أنها تملك أكبر قواعدها العسكرية خارج البر الأميركي في قاعدة العديد الجوية (35 كلم جنوب غرب الدوحة). وأثمر التحرك الدبلوماسي القطري النشط في واشنطن تحولا تدريجيا في موقف الرئيس الأميركي من الأزمة، أخذ يتضح بعد اللقاء الذي جمعه بأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/ أيلول 2017، فقد أشاد ترامب بالعلاقة مع قطر، ووصفها "بالمتينة"، كما أكد التزامه بحل الأزمة الخليجية "سريعًا جدًّا". وقد مهد لقاء القمة الطريق أمام إطلاق الحوار الاستراتيجي الأميركي - القطري أواخر يناير/ كانون الثاني 2018، في واشنطن، بمشاركة وزراء الخارجية والدفاع من البلدين.
ومثّل الحوار الذي كان الأول من نوعه بين الطرفين، وتم تحويله إلى منتدى حوار استراتيجي سنوي، نقطة تحوّل في مسار الأزمة، وفي العلاقة القطرية - الأميركية، إذ أكد على تكريس "الشراكة الدفاعية بين قطر والولايات المتحدة في تعزيز أمن المنطقة واستقرارها، والتعاون الثنائي في مكافحة الإرهاب". واتفق الطرفان على برنامج مبيعات الأسلحة الأميركية الذي تصل قيمته إلى 24.7 بليون دولار بين الولايات المتحدة وقطر، وعلى توسيع المرافق الحيوية في القواعد الأميركية في قطر. وفي مجال التجارة والاستثمار، أقرت الحكومتان بأهمية هيئة قطر للاستثمار والتزامها المسبق باستثمار 45 مليار دولار في الشركات الأميركية والعقارات والوظائف. غير أن أهم مخرجات الحوار الاستراتيجي الأميركي - القطري تمثل في إعلان الولايات المتحدة رسميا "استعدادها للعمل مع قطر لردع ومواجهة أي تهديد خارجي لسلامة أرض دولة قطر ووحدتها الترابية، بشكل يتنافى مع ميثاق الأمم المتحدة". وفي هذا إشارة غير مباشرة إلى ما كان تردّد أن دول الحصار كانت تفكر في القيام بعمل عسكري ضد قطر، على ما جاء في تصريح أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد الصباح، في زيارته لواشنطن في سبتمبر/ أيلول 2017. وشكلت القمة الثانية التي عقدت في واشنطن بين الشيخ تميم والرئيس ترامب في إبريل/ نيسان 2018 ذروة التغير في الموقف الأميركي من الأزمة.
الآن وبعد مرور عام، يبدو أن مياها كثيرة جرت تحت جسور الأزمة الخليجية، فقد استوعبت قطر الصدمة وتجاوزتها، لا بل استفادت منها في الكشف عن نقاط ضعفها وتلافيها، كما تغير موقف الرئيس ترامب جذرياً من الأزمة. والثابت الوحيد حتى الآن مواقف دول الحصار التي ما زال يحدوها الأمل في إمكانية الحصول على تنازل ما من قطر، يساعدها في النزول عن الشجرة، لكن انتظارها سيطول على ما تدل الوقائع.
وعلى الرغم من أن دولة قطر صغيرة بمساحتها وعدد سكانها، وعلى الرغم من أن دول الحصار عمدت، على امتداد العام، إلى التقليل من أهمية الأزمة معها، على ما جاء في تصريحات غير مسؤول فيها، إلا أن واقع الحال يفيد بعكس ذلك، إذ حظيت الأزمة ولا تزال بأعلى قدر من الاهتمام الإقليمي والدولي، بدليل التغطية الإعلامية الواسعة التي تناولتها على مستوى العالم، والاستقطاب والتطاحن الشديد الذي نشب في عواصم العالم الكبرى، وفي مقدمتها واشنطن، على خلفية الأزمة، وشاركت فيه وسائل إعلام وشركات علاقات عامة وجماعات ضغط ومصالح، وشركات محاماة، ومراكز تفكير وجامعات وسياسيين ومفكرين ومشرعين، وتداخلت فيه قضايا السياسة بالمال والأمن والاستخبارات.
ولا يبدو هذا غريبا في ضوء أهمية أطراف الأزمة وأوزانها على المستويين الإقليمي والدولي، فلديك هنا أكبر مصدر للنفط في العالم، بأول احتياطات مؤكدة (السعودية)، وأكبر مصدّر للغاز المسال في العالم، بثالث احتياطات مؤكدة (قطر)، ودولة ثالثة تملك ثاني أكبر صندوق سيادي في العالم (الإمارات)، ورابعة تأتي أهميتها من مقدار الفوضى التي يمكن أن تحدثه في حال انزلاقها إلى مراتب الدول الفاشلة (مصر). فوق ذلك، يدور الصراع في منطقة تحوي 40% من احتياطات العالم من الطاقة، وتمده بـ20% من احتياجاته اليومية منها، ويبلغ مجموع الناتج الإجمالي المحلي لدول مجلس التعاون أكثر من 1.5 تريليون دولار، ويحتل بذلك المرتبة العاشرة في العالم بعد كندا وقبل كوريا الجنوبية، ويشكل 2% من الناتج الإجمالي
من هذا الباب، استرعت الأزمة كل اهتمام من القوى الإقليمية والدولية ذات الشأن والمصلحة، من الصين إلى البرازيل مرورا بروسيا وإيران وتركيا وأوروبا وصولا إلى جنوب أفريقيا، وطبعا الولايات المتحدة التي لعبت إدارتها دور المفجر الرئيس للأزمة. فوق ذلك، غيرت الأزمة من طبيعة الاصطفافات على المستويين الإقليمي والدولي، وكانت دافعا إلى التعبير عن مواقف ما كان يمكن أن تتبلور دونها، حيث بدت كأنها تعبير عن حالة أزمة كبرى يعيشها النظام الدولي، بلغت ذروتها بوصول اليمين الشعبوي إلى الحكم في الولايات المتحدة، وتبنيه سياساتٍ أحادية، انعزالية.
مجلس التعاون.. أزمة مصالح وقيم
ظهرت تداعيات الأزمة أشد ما تكون في البيت الخليجي، إذ انجلى بفعلها دخان المجاملات والبروتوكولات، وانتهت ما تسمى محليا دبلوماسية "تقبيل اللحى" التي كانت تحاول إظهار وحدة البيت الخليجي وإخفاء انقساماته، كما أجهزت الأزمة نهائيا على الأفكار التي كانت تعلن حماسيا، وأحيانا اعتباطيا، بين الفينة والأخرى، مثل الانتقال نحو اتحاد خليجي، شبيه بالاتحاد الأوروبي، واقتراح ضم الأردن والمغرب إليه، وتبني سياسةٍ أمنيةٍ وخارجيةٍ مشتركة، وإصدار عملة موحدة، وإنشاء بنك مركزي خليجي، ومنطقة جمركية واحدة، واعتماد سياسة الحدود والأجواء المفتوحة، وغير ذلك من أفكار ومقترحات، بيّنت الأزمة كم هي بعيدة عن الواقع.
الأهم من ذلك كله أن الأزمة أخرجت صراعا مكبوتا إلى العلن، ليس فقط بشأن المصالح (كما تبدت في مصر وسورية وليبيا وغيرها)، بل أيضا بشأن القيم والأفكار والمبادئ والرؤى التي تحملها النخب الحاكمة الخليجية. ومثلت الأزمة ذروة هذا الخلاف الفكري والفلسفي الذي ظل يتفاعل أكثر من عقدين داخل مجلس التعاون، وبدأ مع وصول أمير قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة، إلى السلطة عام 1995، وإطلاق نموذجه الخاص في التنمية.
أطلق الشيخ حمد مشروعه الهادف إلى الانتقال ببلاده من مجتمع تقليدي محافظ إلى مجتمع أكثر انفتاحا، فأنشأ فروعا للجامعات ومراكز التفكير الأجنبية، واستضاف التيارات الفكرية العربية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وأطلق قناة الجزيرة لتكون منبراً إعلامياً يطرق القضايا والموضوعات التي كانت تعد في وقتها محرّمات في الفضاء العربي العام، محولا بذلك الدوحة إلى مركز تفاعل ثقافي وفكري، كانت تؤديه في الماضي عواصم عربية عريقة، مثل القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت. ووفرت قطر بذلك مساحةً لحرية الرأي والتعبير والتفكير والإعلام غريبة على أجواء المنطقة، وكرّست بهذا نفسها قوة تغيير في المنطقة، وخصما للنظم الأوتوقراطية التي راعها حجم التحولات التي أدخلتها قطر في هذا المجال، ودخلت في مواجهات معها بسبب ذلك، لكن قطر التي فتحت الباب أمام شكل من لبرلة الفضاء السياسي والإعلامي العربي ظلت مع ذلك مجتمعا محافظا يراعي التقاليد العربية الإسلامية، ويسعى إلى الحفاظ على هويته وتراثه، ما جعلها نموذجا فريدا في منطقتها. وعلى الرغم من أنها، مثل شقيقاتها الخليجيات، ظلت دولة ريعية، إلا أنها اختلفت معها أيضا في وسائل الريع، إذ راهنت على الغاز بدل النفط، وهو الرهان الذي أثبت نجاحه لاحقا.
بهذا، قدمت قطر نموذجا جديدا، وطريقا تنمويا وفلسفيا ثالثا في الخليج، يناقض النموذجين، السعودي المحافظ سياسيا واجتماعيا، والرافض أشكال التغيير، خصوصا الديمقراطي، والإماراتي المتحرّر اقتصاديا واجتماعيا، إنما المتشدّد في رفضه الليبرالية السياسية، خصوصا إذا كانت تأتي بقوى إسلامية إلى السلطة، باعتبار أنها تمثل نقيضه الفكري والسياسي والاجتماعي.
عندما اندلعت ثورات الربيع العربي، وجدت قطر الفرصة سانحةً للدفع باتجاه ترجمة الأفكار التي ظلت ترعاها وتروجها عقدا ونصف، أملاً في إنهاء الأحادية السياسية والفكرية التي هيمنت على العالم العربي، فيما برزت السعودية والإمارات بوصفهما قوتين رافضتين للتغيير، وداعمتين لنظام إقليمي سلطوي محافظ. وعليه، دخل المعسكران في مواجهاتٍ ومنافساتٍ في مصر وليبيا وحتى في سورية. وكشفت الأزمة الخليجية عن هذا الانقسام، وبيّنت حجم الشرخ الذي ضرب مجلس التعاون الخليجي، والمرارة التي يتسم بها الخلاف داخله، باعتباره يتجاوز المصالح التي يمكن التوصل إلى تسويات بشأنها، إلى صراع حول القيم والأفكار والرؤى، ما يجعل إمكانية حله أكثر صعوبة.
خلط الأوراق إقليمياً
بمقدار ما أدت الأزمة الخليجية إلى شرخ العلاقة بين الأشقاء في مجلس التعاون، فقد ساهمت في لم شمل الخصوم على المستوى الإقليمي، إذ أثمرت الأزمة على الفور تقارباً إيرانياً - تركياً هدفه الرئيس منع حصول تحول كبير في موازين القوى الإقليمية في حال نجحت دول الحصار في تغيير توجهات قطر الخارجية، أو السيطرة على إمكاناتها المالية وقدراتها الإعلامية والسياسية الكبيرة.
بالنسبة إلى تركيا، تعد قطر حليفها الرئيس وشبه الوحيد في العالم العربي، بعد سقوط مصر بيد المعسكر السعودي - الإماراتي عام 2013، وخسارتها تعني عزلة تركية كاملة في العالم العربي في مواجهة ثلاثي الرياض – القاهرة – أبوظبي، الساعي إلى إسقاط حكومة العدالة والتنمية ذات الميول الإسلامية المحافظة. وقد بدا واضحاً لكثيرين أن محاولة إخضاع قطر في العام 2017 ليست سوى استكمال للمحاولة الفاشلة التي حاولت إطاحة حكم الرئيس رجب طيب أردوغان في انقلاب عسكري في العام الذي سبقه. من هذا الباب، سارعت أنقرة إلى دعم الموقف القطري بكل الوسائل، بما فيها الدفاعية.
أما إيران فقد اعتبرت أن نجاح السعودية والإمارات في إخضاع قطر يعني تركز كثير من القوة والثروة في يد المعسكر الخصم، ولذلك سارعت حكومة الرئيس حسن روحاني إلى عرض المساعدة على قطر للتغلب على الحصار، ففتحت لها أجواءها ومياهها الإقليمية لنقل البضائع والمؤن والمواد الغذائية بأنواعها. وبادرت إيران للاستثمار في الأزمة، لإضعاف الموقف السعودي، فراحت تقدّم نفسها دولة موثوقة، يمكن الاعتماد عليها في حال قررت دول الخليج الأخرى الفكاك من محاولات الهيمنة السعودية عليها، كما تفعل قطر.
لهذه الأسباب، وجدت تركيا وإيران مصلحة مشتركة في التعاون، وإرسال رسائل مشتركة مؤدّاها أنها لن تسمح بأي تغيير في موازين القوى، أو في خرائط المنطقة، على الرغم من أن البلدين كانا مشتبكين منذ العام 2011 في حرب وكالةٍ شاملةٍ في سورية، وجزئيا في العراق بعد الانسحاب الأميركي، حيث كانت تركيا تحاول استعادة التوزان الإقليمي الذي اختل بانفلاش النفوذ الإيراني في المنطقة بعد سقوط بغداد.
ارتباك المشهد الدولي
إذا كانت الأزمة الخليجية فرّقت الأشقاء في مجلس التعاون، وقرّبت الخصوم والأعداء على مستوى الإقليم، فقد أبرزت دوليا حجم التناقض في المصالح بين الدول المهتمة بشؤون منطقة الخليج، فوفرت فرصًا لبعضهم، ومثلت تهديدًا لآخرين، كما أدت هنا أيضا إلى اصطفافات جديدة، على الرغم من أن الناظم العام للسلوك الدولي ظل يتمحور حول منع التصعيد، نظرًا لأهمية المنطقة وثقلها في الاقتصاد العالمي.
وفيما وجدت روسيا في الأزمة فرصةً للولوج إلى منطقة الخليج، وكسر الاحتكار الأميركي لها، بعدما نجحت في استعادة نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، بعد تدخلها في سورية، والنفاذ إلى العراق ولبنان بمساعدة إيرانية، حاولت فرنسا وبريطانيا التوسط، نظرًا إلى وجود مصالح اقتصادية كبيرة تربطها بأطراف الأزمة جميعًا. أما ألمانيا، فقد وجدت في الأزمة فرصة للتعبير عن غضبها من سياسات الرئيس ترامب عموما، واتجاه الأزمة الخليجية خصوصا. إذ طالب وزير الخارجية الألماني حينها، غابرييل زيغمار، برفع الحصار عن قطر قائلاً: "انتهاج مثل هذا الأسلوب الترامبي في التعامل مع قطر يشكل خطورةً كبيرةً جداً في منطقة هي في الأساس مشحونة بالأزمات".
أما الولايات المتحدة، فقد تحولت هي نفسها إلى طرف رئيس في الأزمة، بعدما ساهمت في تفجيرها. وكانت مشاركة الرئيس ترامب في قمة الرياض التي جمعته مع نحو 55 زعيم دولة عربية وإسلامية يوم 21 مايو/ أيار 2017 بمثابة الصاعق الذي فجر الأزمة، إذ جرت بعدها بيومين قرصنة وكالة الأنباء القطرية، ثم فرض الحصار على قطر بعد ذلك بأسبوعين.
كشفت الأزمة عن انقسام شديد داخل إدارة ترامب التي لم تكن قد أمضت ستة أشهر في الحكم. وكان الانقسام على أشده بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية، ففيما أيد الرئيس ترامب مواقف دول الحصار، طالب وزير خارجيته، ريكس تيلرسون، بضرورة حل الأزمة بطرقٍ سلمية. وقد بلغ الخلاف، في مقاربة الطرفين، ذروته عندما وجّه ترامب، في مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الروماني الذي كان في ضيافته في التاسع من يونيو/ حزيران 2017، اتهامات لقطر بدعم الإرهاب، بعد ساعات فقط من كلمة ألقاها تيلرسون دعا فيها إلى تخفيف الحصار عن قطر.
وسارعت الدوحة إلى تركيز جهدها الدبلوماسي على إحداث تغيير في موقف البيت الأبيض، باعتبار ذلك مفتاح احتواء الأزمة، إن لم يكن حلها، وإفشال من ثم مساعي دول الحصار لضرب علاقتها بواشنطن التي كان يجهل ترامب أنها تملك أكبر قواعدها العسكرية خارج البر الأميركي في قاعدة العديد الجوية (35 كلم جنوب غرب الدوحة). وأثمر التحرك الدبلوماسي القطري النشط في واشنطن تحولا تدريجيا في موقف الرئيس الأميركي من الأزمة، أخذ يتضح بعد اللقاء الذي جمعه بأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/ أيلول 2017، فقد أشاد ترامب بالعلاقة مع قطر، ووصفها "بالمتينة"، كما أكد التزامه بحل الأزمة الخليجية "سريعًا جدًّا". وقد مهد لقاء القمة الطريق أمام إطلاق الحوار الاستراتيجي الأميركي - القطري أواخر يناير/ كانون الثاني 2018، في واشنطن، بمشاركة وزراء الخارجية والدفاع من البلدين.
ومثّل الحوار الذي كان الأول من نوعه بين الطرفين، وتم تحويله إلى منتدى حوار استراتيجي سنوي، نقطة تحوّل في مسار الأزمة، وفي العلاقة القطرية - الأميركية، إذ أكد على تكريس "الشراكة الدفاعية بين قطر والولايات المتحدة في تعزيز أمن المنطقة واستقرارها، والتعاون الثنائي في مكافحة الإرهاب". واتفق الطرفان على برنامج مبيعات الأسلحة الأميركية الذي تصل قيمته إلى 24.7 بليون دولار بين الولايات المتحدة وقطر، وعلى توسيع المرافق الحيوية في القواعد الأميركية في قطر. وفي مجال التجارة والاستثمار، أقرت الحكومتان بأهمية هيئة قطر للاستثمار والتزامها المسبق باستثمار 45 مليار دولار في الشركات الأميركية والعقارات والوظائف. غير أن أهم مخرجات الحوار الاستراتيجي الأميركي - القطري تمثل في إعلان الولايات المتحدة رسميا "استعدادها للعمل مع قطر لردع ومواجهة أي تهديد خارجي لسلامة أرض دولة قطر ووحدتها الترابية، بشكل يتنافى مع ميثاق الأمم المتحدة". وفي هذا إشارة غير مباشرة إلى ما كان تردّد أن دول الحصار كانت تفكر في القيام بعمل عسكري ضد قطر، على ما جاء في تصريح أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد الصباح، في زيارته لواشنطن في سبتمبر/ أيلول 2017. وشكلت القمة الثانية التي عقدت في واشنطن بين الشيخ تميم والرئيس ترامب في إبريل/ نيسان 2018 ذروة التغير في الموقف الأميركي من الأزمة.
الآن وبعد مرور عام، يبدو أن مياها كثيرة جرت تحت جسور الأزمة الخليجية، فقد استوعبت قطر الصدمة وتجاوزتها، لا بل استفادت منها في الكشف عن نقاط ضعفها وتلافيها، كما تغير موقف الرئيس ترامب جذرياً من الأزمة. والثابت الوحيد حتى الآن مواقف دول الحصار التي ما زال يحدوها الأمل في إمكانية الحصول على تنازل ما من قطر، يساعدها في النزول عن الشجرة، لكن انتظارها سيطول على ما تدل الوقائع.