عامل من الناس

01 مايو 2016
انطلق في رحلته الأسبوعية نحو البحر (حسين بيضون)
+ الخط -
لم يتعب بعد، مع أنّ الشعر الأبيض لم يترك شيئاً للشعر الأسود في رأسه.

في سنّه الستينية كان من المفترض أن يرتاح. لكن في هذه البلاد، بلادنا، لا ضمانات لمن يصلون إلى عمره. هؤلاء لن يعرفوا الراحة أبداً. لذلك سيجتهدون غالباً إلى آخر حياتهم. قبل سنوات قليلة، تخطّى السن الرسمي للتقاعد. السن التي من المفترض أن يتفرغ بعدها كل فرد لممارسة ما فاته في الأيام السابقة.

لطالما كان منضبطاً في حياته. عاش طفولة صعبة بعدما خسر والده باكراً. خسارة أحد الوالدين تهز أساس أي أسرة. ولمّا لم تكن الظروف المادية تسمح برفاهية التعليم، فقد اضطر إلى ترك المدرسة باكراً، لتعلّم مهنة تعينه على القادم من الأيام. عندما تفقد عائلة كبيرة والدها يصير تعويض هذا الفراغ الكبير شأناً جماعياً.

كان العمل دائماً بالنسبة إليه الوحيد المقدّس، ومع ذلك لم يأخذ حقه فيه. ليس لأنه لم يكن مجتهداً، بل لأن أخلاقه ومبادئه لم تسمح له يوماً بالقفز على أكتاف الآخرين. وقد انقسمت حياته لاحقاً عندما تزوّج وأسّس أسرته الخاصة ما بين أهل منزله، والعمل، وعدد محدود جداً من الأصدقاء لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة. هؤلاء بالذات بات يفقد واحداً منهم كل فترة بعدما تقدموا في السن وصاروا يخسرون في معارك المرض.

نادراً ما كان يعترض، أو يثور. فالمسائل بمعظمها مرتبطة عنده بالقناعة. يركّز دوماً على ما يملكه وليس على ما ينقصه ويحتاج إليه. ما نسمّيه في لغتنا النصف الممتلئ من الكوب. لذلك لم يسلك طرقات مواربة يوماً. لم يعرف إلا الخط المستقيم، مع علمه أن أصحاب هذا الخط بالذات هم أكثر من يعانون في حياتهم. دائماً كانت القناعة لديه قبل أي شيء.

لم يخالف القانون يوماً. لم يرفع راية حزب. لم ينتسب إلى مليشيا. لم يطلق رصاصة. لم تغره المذهبية. لم يعلّق صورة زعيم. لم يعادِ جاراً طوال حياته. لم يجرح طفلاً بكلمة. اكتفى بتأدية ما ظنّ أنها مهمته في الحياة: تأسيس عائلة وبذل الجهد، لجعلها لا تحتاج شيئاً، تعويضاً لنقص عرف طعمه باكراً. وقد فعل هذا بصمت.

بالأمس كان عيد العمال، وهو ككثيرين لم يحتفل به في حياته. ربما لا يعرف أن هذا العيد بالذات سنّ خصوصاً لمن يشبهونه في الحياة.

بالأمس فعل ما يفعله في كل يوم أحد، المساحة الوحيدة التي يخصصها لنفسه في الحياة. لبس ثياباً خفيفة، حمل بعض حبّات الفواكه الموسمية، وانطلق في رحلته الأسبوعية نحو البحر الذي يجمع من تبقى مِن الأصدقاء.

لذلك، وله، ولمن يشبهونه: كلّ عام وأنتم بخير.

 
المساهمون