عالم بلا دول

06 أكتوبر 2017
+ الخط -
بينما يُنظّر بعضهم لـ"العالم القرية الصغيرة" و"المواطن العالمي"، يقفز الواقع ليعكس بالفعل، لا بالقول، أن العالم يتجه إلى مزيد من التفكك والتحلل، وربما انهيار الدولة المركزية، لصالح عودة الكيانات القومية، أو ولادة أشكال جديدة من الكيانات، مغايرة لمفهوم "دولة العقد الاجتماعي". وبالنظر إلى مجريات الأمور في أكثر من مكان، يستنتج المُتتبع أن نزعة الانفصال عن الدولة المركزية، لصالح الاستقلال القومي أو الإثني، تجتاح الكيانات السياسية من أقصى الشرق في الصين إلى الغرب البعيد في كندا، ومن الشمال البارد في اسكتلندا إلى الجنوب الحار في الكاميرون، مرورا بالشرق الأوسط، لا يُستثنى من ذلك أقوى الدول المركزية، أو أكثرها ديمقراطيةً وليبرالية، ولا تمايز في ذلك بين دول غنية وأخرى فقيرة. فالولايات المتحدة، المتهمة بتغذية حركات انفصالية كثيرة في العالم، لم تسلم من نزعات إنفصالية صامتة، أو مُعتّم عليها، من قبيل ما حصل في اجتماع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، في 2015، عندما تقدّم ممثلون عن السكان الأصليين لولايتي ألاسكا وجزر هاواي بمذكرة للأمم المتحدة، تطلب النظر في مسألة ضم أراضيهم بطريقة "غير مشروعة" للولايات المتحدة، وتطلب المساعدة في منحهم "حق تقرير مصيرهم". وليس بعيدا عن الولايات المتحدة، تواجه كندا نزعات انفصالية في إقليم كيبيك الناطق بالفرنسية.
وتواجه بريطانيا نزعات انفصالية واضحة من إقليمي اسكتلندا وإيرلندا الشمالية، إذ عبر الأول عن هذه الرغبة صراحة في 2014، من خلال استفتاء شعبي، لم ينتصر فيه القوميون، بينما تنفجر الرغبات الانفصالية في إيرلندا من وقت إلى آخر، على شكل مواجهات عنيفة تواجه الدولة المركزية في لندن. ومنذ ثلاثينيات القرن الماضي، تواجه إسبانيا نزعاتٍ انفصالية في أقاليم كتالونيا والباسك وغاليسيا. وتشهد إيطاليا تحركات انفصالية، شمالًا وجنوبًا، ففي الجنوب تنادي صقلية بالانفصال، بينما تتصاعد في الشمال الأصوات الانفصالية في البندقية والتيرول.
وتعلو أصوات انفصالية، كذلك، في بلجيكا التي تنقسم ثلاثة أقاليم إدارية، فبالإضافة إلى إقليم بروكسل العاصمة، هناك إقليما فلامندي الشمالي وألون الجنوبي. وقد عزّزت الفوارق الاقتصادية والعرقية واللغوية بين الإقليمين الشمالي والجنوبي نزعة الانفصال عند "الفلاندر" سكان الإقليم الفلمندي الغني. وحتى سويسرا، أكثر دول العالم استقرارا وثراء، لم تسلم من شر النزعات الانفصالية التي انفجرت في العام 1815، في كانتون "الجورا"، ولم تهدأ حتى 1996، عندما مُنح الإقليم مزيدا من الصلاحيات الذاتية، ومزيدا من التمثيل في الدولة المركزية.
وفي الصين، لا يتوقف سكان إقليم التبت عن المطالبة بالاستقلال، وتقرير المصير، للخلاص من حكم بكين التي سيطرت على الإقليم بالقوة في العام 1951 وترفض الصين الدعوات الدولية المطالبة بالحوار مع الزعيم الروحي للإقليم في المنفى، الدلاي لاما. وتواجه دعوات انفصالية أخرى في إقليم سينكيانج ذي الأغلبية المسلمة، ودعوات استقلال كامل في تايوان التي تتمتع بالاستقلال الاسمي منذ عام 1949.
ويصعب حصر الحركات الانفصالية في القارة الأفريقية. من الشمال تطالب حركة البوليساريو باستقلال الصحراء الغربية عن المملكة المغربية، وصولا إلى الكاميرون، حيث يطالب السكان الناطقون بالإنكليزية في بويا كبرى، مدن الجنوب الغربي، وباميندا كبرى مدن الشمال الغربي بالاستقلال عن ياوندي.
وفي عالمنا العربي حدّث ولا حرج، وقد لا يكون استفتاء كردستان العراق، وقبل ذلك انفصال جنوب السودان، إلا أول الغيث، من عواصف تهدد دولا مركزية عدة، بالتقسيم القسري أو الانهيار الكامل.
ولا يبدو أن النزعات الانفصالية التي تسارعت مع تفكك الاتحاد السوفييتي، نهاية القرن الماضي، وتكثّفت خلال العقود الثلاثة الماضية، ستهدأ في السنوات المقبلة، بل العالم مرشح لمزيد من التفتت، مع تنامي المشاعر القومية والإثنية والطائفية والعرقية، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وصولا إلى تلاشي الدولة المركزية، كما رجح تقرير "عالم بلا دول"، صدر في العام 2013 عن مجلس الاستخبارات الوطني في الولايات المتحدة، عن الاتجاهات العالمية وتحولاتها على المدى الطويل.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.