عاصي الرحباني.. أغنية لذهب الزمان الضائع

04 مايو 2020
(عاصي الرحباني)
+ الخط -
تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الرابع من أيار/ مايو، ذكرى ميلاد الملحن اللبناني عاصي الرحباني (1923 - 1986).


وصل الموسيقي الفلسطيني صبري الشريف لبنان بحلول عام 1956، بعدما قدّم استقالته من "إذاعة الشرق الأدنى" في قبرص التابعة لوزارة الخارجية البريطانية على إثر العدوان الثلاثي على مصر، وهناك سيتعرّف على مجموعة من الموسيقيين اللبنانيين الجدد، ومنهم عاصي الرحباني (1923 – 1986) الذي تحلّ اليوم الإثنين ذكرى ميلاده.

شكّلت الخمسينيات مرحلة تحوّل صاغها الرحابنة وزكي ناصيف بشكل أساسي، دون إغفال المحاولات التي بدأها فيلمون وهبي منذ العقد السابق، في انزياح نحو تقديم أغنية تستلهم التراث لكن بأمزجة شتّى ألّفتها "عصبة الخمسة" التي تأسّست سنة 1957، وكانت انطلاقتها الأولى في "مهرجانات بعلبك الدولية" بأغانٍ ترتبط بمواسم الحصاد والأعراس والطقوس الشعبية.

لم تجتمع "الخمسة" مكوّنة من الأخوين عاصي ومنصور وتوفيق الباشا وتوفيق سكر وناصيف سوى موسمين، لتنفرط إلى مجموعتين، "الرحابنة" برفقة صبري الشريف، و"فرقة الأنوار" ومعها سعيد فريحة، في أجواء هيمن عليها التنافس وقدر من الخصومة.

افترق تيار الأغنية الرومانسية التي تحنّ إلى الطبيعة والأرياف وحياة بسيطة نقيّة لم تلوثها المدن وأنظمتها، الذي قاده عاصي لاحقاً متحكّماً بكلّ ما سيراه الجمهور فوق الخشبة، عن تيار اقترب أكثر من الواقعية في مضامين أغانيه التي ركّزت على البناء ووطن متحقّق لا يسكن الغيم، وفق رؤية ناصيف.

مضى الرحابنة في درب معاكس للتطريب الذي قام عليه الغناء العربي منذ القدم، بل اعتبروه مرضاً يعتمد تخدير المستمعين، لذلك جاءت جملتهم الموسيقية قصيرة غالباً، وحملت لهم الصدفة أيضاً صوت فيروز الذي جاء منسجماً مع توجّههم، خلافاً للأصوات النسائية التي تعوّدت عليها الذائقة العربية واتسمت بالرخامة واتساع الحنجرة.

الأهمّ من ذلك كلّه، أن أغنيتهم الجديدة ظلّت تجتذب إليها جمهوراً أكبر بفعل اتكائها على "نوستالجيا" إلى كلّ جمال وخير وطيبة ومحبّة تندثر؛ تلك الخلطة التي مُزجت بها معظم الكلمات التي انتقاها الشقيقان وسيكون لها تأثير مضاعف خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990) مع نزوح الآلاف عن مدنهم وقراهم وهجرتهم القسرية إلى الخارج، وحسرتهم المتزايدة على بلاد انجرّت نحو دوامة العنف، ولم تعد تشبه ما كانت عليه، ليتعلّق اللبنانيون، وبعض أشقائهم العرب، بـ"وطني بتضلك طفل صغير"، و"ذهب الزمان الضايع".

امتدّ تأثير الرحابنة لأجيال لاحقة اتبعت خطاهم، وهي تبحث عن الحب خارج حدود الواقع الذي أصبح من الصعب استعيابه ومحاكاته، قبل أن ينفرط عقد الأغنية اللبنانية منذ تسعينيات القرن الماضي التي أدّاها جيل ما بعد الحرب بلهجة مصرية ومضامين مهما اختلف عليها الدارسون لكنها لا تشبه ما عرفه اللبنانيون لعقود مضت.

في "المختبر" الرحباني، استحوذ عاصي على جميع شركائه الذين كان عليهم الانسحاب إذا ما اختلف أحدهم معه، حيث حدّد لكلّ منهم طبيعة عمله في واحدة من أبرز تجارب المسرح الغنائي في العالم العربي، وانتهت بمجرّد رحيله، حيث لم يتمكّن أيّ من "الشركاء" من الاستمرار بها.

ويحضر هنا الشقيق منصور، الذي تداخل اسمه مع عاصي في عشرات الكلمات والألحان التي تحمل توقيع "الأخوين الرحباني"، وتعددّت الروايات حول ثنائي موسيقي دون تحديد دور كلّ منهما في مشروعهما، وسيظلّ السؤال قائماً حول عدم تقديم منصور لعمل واحد بسوية ما قدّمه عاصي بعد رحيله، والذي عزاه كثيرون لعبقرية الأخير الذي كان يبني مشروع العائلة حيث انتهى مع غياب مؤسّسه الحقيقي.

وبقدر ما سترتبط أغنية الرحابنة ومسرحهم بذلك المثال الذي يحلم الجميع ببلوغه ذات يوم، وبنقده القاسي واللاذع للسلطة بتمثّلاتها في السياسة والدين والعادات، والتي سيحفظها الملايين إلى اليوم، فإن انحيازات عاصي السياسية ستبقى تصيبه بمقتل كلما استذكر قريب (ابنه زياد تحديداً)، أو بعيد، مواقفه خلال الحرب الأهلية، والتي عدّها البعض تعبيراً عن بعد طائفي.

عودة إلى عام 1956، تجمع الروايات على إعجاب صبري الشريف بالأغنيات الأولى التي وضعها عاصي ومنصور، مستغرباً أنهما لم يتلقيا تعليماً موسيقياً منتظماً في بلد أوروبي، بل درسا العزف في بيروت على يد الخوري بولس الأشقر والعازف الفرنسي برتران روبيار، وكان ذلك كافياً بالنسبة إليهما لتقديم مسرحيتهم الاستعراضية الأولى بعنوان "أيام الحصاد"، ويحصدان شهرتهما الواسعة.