أعطته الحياة يدين قادرتين على تحويل كل ما يتراكض في عقله إلى لوحات لا يمكن أن تصدق أنها من رسمه، وأعطته حساسية يستطيع من خلالها أن يلمح ما وراء الأشياء وما يختبئ في النفوس التي حوله ويستطيع أن يستشعر أوجاع الآخرين بل ويعيشها معهم بكل عمق وحقيقة.
بالإضافة إلى مدرسته كان "مناف" يدرس الرسم في معهد أدهم إسماعيل، وهو من أهم المعاهد في سورية، وقد نجح مناف في امتحان قبوله الصعب كأصغر طالب نظامي منذ تأسيس المعهد، وهذا ما جعله يتعرف على الطلاب الأكبر منه بكثير وما جعله ينضج قبل أوانه، يقول: "لقد علمني المعهد الحياة، غيّر نظرتي لكل ما حولي، بكل ما فيه، بمدرسيه وبمديرته، أما طلابه فقد كانوا أصدقاء رائعين".
منذ بداية الثورة، بدأت أحداثها تستحوذ عليه، وذلك من خلال كل من حوله ومن خلال أصدقاء المعهد، الذين كانوا ينتمون إلى التيار العلماني في الثورة، فشغلته المظاهرات السلمية وشغله هذا التحدي النبيل الذي كان يشع من عيون المتظاهرين: "كنتُ أرى في وجوه المتظاهرين تحدياً رائعاً، وكم تمنيت أن أرسم هذا التحدي مثلما فعل الرسام الذي أحس أني أعيش في لوحته، غويا".
كان مناف يُعرّي في لوحاته كل أشكال الاضطهاد الفكرية والدينية وكم شغله الدين حين يتحول إلى شيطان يأكل العقول والقلوب، وكم حفزه للبحث. وبشكل فطري كان يخاف على الثورة كثيراً من هذا الوحش. ولأنه لم يكن يملك غير أصابعه ليرسم ما يريد أن يصرخ به، كان يهرب إلى لوحته ويقول:" أتمنى لو أستطيع أن أفضح بلوحتي كل ما يقتل الفكر، كله حتى لو كان أي مقدس".
بعد سنةٍ من بدء الثورة، اغتال النظام خال مناف الأقرب إلى روحه بدون ذنب إلا الكلمة، وبعدها وُجد صديقه في المعهد مذبوحاً قريب حاجز الميسات لتأخذه الحياة إلى عمق ظلمها، ويروي مناف:" استشهاد خالي كان صاعقة مرعبة قلبت كل حياتنا وقلبت كل شكل الحياة بداخلي. خالي الذي قتلته كلماته الحرة فقط. ماذا سأرسم بعد اليوم؟ وجه جدتي هو العالم الآن، دموعها على الذي رحل بدون أي ذنب هي الأصدق في هذا العالم النذل. أما استشهاد ربيع، صديقي الذي كان يملك أطيب قلب، والذي كان مثالاً لابن البيئة الدمشقية المتدينة النقية والطيبة والبعيدة عن أي تزمت. ربيع الذي عمل في الإغاثة، ربيع الذي امتلك أصابع مثل قلبه، فهو قتل للربيع فعلاً. أحس أني لا أصدق ولن أصدق؛ كنت أرسم معه في المعهد قبل يوم من قتله. هو لم يفعل شيئاً، كان يرسم فقط".
وحين كان مناف يشاهد الوجه الآخر للنظام، يذبح باسم الدين، كان أيضاً يهرب للوحة ليصرخ ويعرّي كل هذا الخراب. اضطرت أمه لمغادرة سورية بعد تهديدات باعتقالها، وبعد إصابتها بمرض يحتاج لمتابعة طبية لم تعد قادرة على الحصول عليها بسبب تقييد حركتها داخل البلد، محاولة السفر إلى أوروبا، وبقي بدونها سنه كاملة:" كانت هذه أصعب سنة في حياتي. أعيش كأني لا أعيش وأحس أني عدت صغيراً جداً وأريد أمي، فقط أبي هو الذي جعلني أتحمل لأنه أصبح صديقي".
أمّا اليوم الذي لا ينساه مناف في تلك السنة، فقد كان يوم ذهابه للمعهد ليجد سيارات الأمن تحاصره وتعتقل أصدقاءه، وليجد مديرة المعهد تتعرض للإهانة والطرد وليستلم بعدها مدير جديد هو أبعد ما يكون عن الرسم ويقول:" لم أعتقد أنني سأجد يوماً مديرة معهدي، هذه الشخصية الرائعة، مطرودةً من عملها بعد كل تلك السنوات".
لم يقف الموضوع عند هذا الحد، فبعد أسبوع استدعاه مديره الجديد ليقول له: "يا مناف ..أنت أصغر طلاب المعهد لكني أعرف من هم أصدقاءك ولأنك صغير ومغرر بك لم أرسلك للسجن بعد. ولكن، إما إن تسكت وتتوقف عن رسم السجون، وإما أنك ستصبح في واحد منها وستطلب الموت ولن تجده".
يتذكر الصغير تلك الكلمات ويُضيف:"كانت عيناه في عيني حين قال لي هذا. كانتا كسهمين مسددين إلى عيني مباشرة، وكانت النار تلمع فيهما. كان ذلك تهديداً حقيقياً أصبحت بعده أخاف عند كل حاجز، وأصبحت أخاف الذهاب إلى أغلى الأمكنة على روحي، إلى معهدي، لم أعد أسلّم مشاريعي، مع أني في سنة التخرج التي حلمت بها لأكون أصغر طالب يتخرج من هذا المعهد. طُردت من المعهد، طُردت من أحلامي".
ضاقت به شوارع دمشق، دمشق التي عشقها وعشقتها لوحاته، دمشق التي كانت تمشي على روحه كلما مشى في أزقتها. ضاقت البلاد كلها على والده الذي لم يعد يعرف كيف يحميه وأين يهرب به. هكذا كان عليه أن يحزم روحه وأمتعته ويتمسك بقلب والده. والده الذي تحول إلى مصدر أمانه الوحيد في كل ما حوله، والذي صار هو الأم والأب.
حملتهما سيارة مع أحلامهما المعبأة في الحقائب إلى الحدود اللبنانية، وبعدها ربما إلى أمه التي أمضت سنتها وهي تحمل قلبها في يدها وتنتظره. ولكن، هناك على الحدود اللبنانية، وبعد انتظار طويل، كان الموت الحقيقي لروح الصغير ويقول: "وصلنا الحدود اللبنانية عند بداية شروق الشمس. طوال الطريق كنت أبكي من وداع أصدقائي وأقاربي والقلوب التي أحببت، لكن يدي والدي كانتا تمسكان بيدي وتقولان: لا تخف يا حبيبي، حين تحملك البلاد سنعود، ولا تخف فأنا معك سأحميك بروحي".
يتابع قصته: "عند الحدود طلب مني والدي النزول لدقائق لنختم أوراقاً روتينية ونكمل. نزلت معه وكانت هذه أخر الكلمات قبل أن نصل إلى ذلك الشرطي الذي أخذ جواز سفري أولاً وختمه حين قال له والدي أني ابنه، وبعدها أخذ جواز سفر أبي، تفحصه ملياً وبدأ يلفظ اسم والدي كأنه يلفظ اسم مجرم وفي عينيه تلتمع شهوة وحش التقط فريسته، وبعدها لم تكن سوى لحظات حتى أتى جنديان مسلحان وأبعداني عن أبي بركله مفاجئة. وبلمح البصر كبلاه، ضرباه، أغمضا عينيه وأخذاه إلى حيث لا أدري".
يضيف مناف:"صرت أصرخ ولا أعرف بماذا أتمسك. صارت السماء تضغط على رئتي فأحسست أني سأختنق. أنا الذي يعرف من أصدقاء المعهد معنى الاعتقال، انتحرت أحلامي أمام عيني، مرت دمشق في روحي وهي تصرخ، توقف الزمن، وجه أبي يهرب، وجه أمي يصرخ، توقف الدم في شراييني، توقفت كل لغات العالم وأحسست أنني أسير إلى الهاوية وأنني أسقط إلى قاع العالم".
بالإضافة إلى مدرسته كان "مناف" يدرس الرسم في معهد أدهم إسماعيل، وهو من أهم المعاهد في سورية، وقد نجح مناف في امتحان قبوله الصعب كأصغر طالب نظامي منذ تأسيس المعهد، وهذا ما جعله يتعرف على الطلاب الأكبر منه بكثير وما جعله ينضج قبل أوانه، يقول: "لقد علمني المعهد الحياة، غيّر نظرتي لكل ما حولي، بكل ما فيه، بمدرسيه وبمديرته، أما طلابه فقد كانوا أصدقاء رائعين".
منذ بداية الثورة، بدأت أحداثها تستحوذ عليه، وذلك من خلال كل من حوله ومن خلال أصدقاء المعهد، الذين كانوا ينتمون إلى التيار العلماني في الثورة، فشغلته المظاهرات السلمية وشغله هذا التحدي النبيل الذي كان يشع من عيون المتظاهرين: "كنتُ أرى في وجوه المتظاهرين تحدياً رائعاً، وكم تمنيت أن أرسم هذا التحدي مثلما فعل الرسام الذي أحس أني أعيش في لوحته، غويا".
كان مناف يُعرّي في لوحاته كل أشكال الاضطهاد الفكرية والدينية وكم شغله الدين حين يتحول إلى شيطان يأكل العقول والقلوب، وكم حفزه للبحث. وبشكل فطري كان يخاف على الثورة كثيراً من هذا الوحش. ولأنه لم يكن يملك غير أصابعه ليرسم ما يريد أن يصرخ به، كان يهرب إلى لوحته ويقول:" أتمنى لو أستطيع أن أفضح بلوحتي كل ما يقتل الفكر، كله حتى لو كان أي مقدس".
بعد سنةٍ من بدء الثورة، اغتال النظام خال مناف الأقرب إلى روحه بدون ذنب إلا الكلمة، وبعدها وُجد صديقه في المعهد مذبوحاً قريب حاجز الميسات لتأخذه الحياة إلى عمق ظلمها، ويروي مناف:" استشهاد خالي كان صاعقة مرعبة قلبت كل حياتنا وقلبت كل شكل الحياة بداخلي. خالي الذي قتلته كلماته الحرة فقط. ماذا سأرسم بعد اليوم؟ وجه جدتي هو العالم الآن، دموعها على الذي رحل بدون أي ذنب هي الأصدق في هذا العالم النذل. أما استشهاد ربيع، صديقي الذي كان يملك أطيب قلب، والذي كان مثالاً لابن البيئة الدمشقية المتدينة النقية والطيبة والبعيدة عن أي تزمت. ربيع الذي عمل في الإغاثة، ربيع الذي امتلك أصابع مثل قلبه، فهو قتل للربيع فعلاً. أحس أني لا أصدق ولن أصدق؛ كنت أرسم معه في المعهد قبل يوم من قتله. هو لم يفعل شيئاً، كان يرسم فقط".
وحين كان مناف يشاهد الوجه الآخر للنظام، يذبح باسم الدين، كان أيضاً يهرب للوحة ليصرخ ويعرّي كل هذا الخراب. اضطرت أمه لمغادرة سورية بعد تهديدات باعتقالها، وبعد إصابتها بمرض يحتاج لمتابعة طبية لم تعد قادرة على الحصول عليها بسبب تقييد حركتها داخل البلد، محاولة السفر إلى أوروبا، وبقي بدونها سنه كاملة:" كانت هذه أصعب سنة في حياتي. أعيش كأني لا أعيش وأحس أني عدت صغيراً جداً وأريد أمي، فقط أبي هو الذي جعلني أتحمل لأنه أصبح صديقي".
أمّا اليوم الذي لا ينساه مناف في تلك السنة، فقد كان يوم ذهابه للمعهد ليجد سيارات الأمن تحاصره وتعتقل أصدقاءه، وليجد مديرة المعهد تتعرض للإهانة والطرد وليستلم بعدها مدير جديد هو أبعد ما يكون عن الرسم ويقول:" لم أعتقد أنني سأجد يوماً مديرة معهدي، هذه الشخصية الرائعة، مطرودةً من عملها بعد كل تلك السنوات".
لم يقف الموضوع عند هذا الحد، فبعد أسبوع استدعاه مديره الجديد ليقول له: "يا مناف ..أنت أصغر طلاب المعهد لكني أعرف من هم أصدقاءك ولأنك صغير ومغرر بك لم أرسلك للسجن بعد. ولكن، إما إن تسكت وتتوقف عن رسم السجون، وإما أنك ستصبح في واحد منها وستطلب الموت ولن تجده".
يتذكر الصغير تلك الكلمات ويُضيف:"كانت عيناه في عيني حين قال لي هذا. كانتا كسهمين مسددين إلى عيني مباشرة، وكانت النار تلمع فيهما. كان ذلك تهديداً حقيقياً أصبحت بعده أخاف عند كل حاجز، وأصبحت أخاف الذهاب إلى أغلى الأمكنة على روحي، إلى معهدي، لم أعد أسلّم مشاريعي، مع أني في سنة التخرج التي حلمت بها لأكون أصغر طالب يتخرج من هذا المعهد. طُردت من المعهد، طُردت من أحلامي".
ضاقت به شوارع دمشق، دمشق التي عشقها وعشقتها لوحاته، دمشق التي كانت تمشي على روحه كلما مشى في أزقتها. ضاقت البلاد كلها على والده الذي لم يعد يعرف كيف يحميه وأين يهرب به. هكذا كان عليه أن يحزم روحه وأمتعته ويتمسك بقلب والده. والده الذي تحول إلى مصدر أمانه الوحيد في كل ما حوله، والذي صار هو الأم والأب.
حملتهما سيارة مع أحلامهما المعبأة في الحقائب إلى الحدود اللبنانية، وبعدها ربما إلى أمه التي أمضت سنتها وهي تحمل قلبها في يدها وتنتظره. ولكن، هناك على الحدود اللبنانية، وبعد انتظار طويل، كان الموت الحقيقي لروح الصغير ويقول: "وصلنا الحدود اللبنانية عند بداية شروق الشمس. طوال الطريق كنت أبكي من وداع أصدقائي وأقاربي والقلوب التي أحببت، لكن يدي والدي كانتا تمسكان بيدي وتقولان: لا تخف يا حبيبي، حين تحملك البلاد سنعود، ولا تخف فأنا معك سأحميك بروحي".
يتابع قصته: "عند الحدود طلب مني والدي النزول لدقائق لنختم أوراقاً روتينية ونكمل. نزلت معه وكانت هذه أخر الكلمات قبل أن نصل إلى ذلك الشرطي الذي أخذ جواز سفري أولاً وختمه حين قال له والدي أني ابنه، وبعدها أخذ جواز سفر أبي، تفحصه ملياً وبدأ يلفظ اسم والدي كأنه يلفظ اسم مجرم وفي عينيه تلتمع شهوة وحش التقط فريسته، وبعدها لم تكن سوى لحظات حتى أتى جنديان مسلحان وأبعداني عن أبي بركله مفاجئة. وبلمح البصر كبلاه، ضرباه، أغمضا عينيه وأخذاه إلى حيث لا أدري".
يضيف مناف:"صرت أصرخ ولا أعرف بماذا أتمسك. صارت السماء تضغط على رئتي فأحسست أني سأختنق. أنا الذي يعرف من أصدقاء المعهد معنى الاعتقال، انتحرت أحلامي أمام عيني، مرت دمشق في روحي وهي تصرخ، توقف الزمن، وجه أبي يهرب، وجه أمي يصرخ، توقف الدم في شراييني، توقفت كل لغات العالم وأحسست أنني أسير إلى الهاوية وأنني أسقط إلى قاع العالم".