عازفة تعزف بأصابع دميتها

23 يوليو 2016
عازفو الشوارع، ظاهرة منتشرة في الدول الأوروبيّة(حسين بيضون)
+ الخط -
كخيطٍ يشدّك من روحك، كسُلّم يوصلك لعالم ثان، كوردة تباغتك على النافذة، كنافذة تباغت سجنك، وكغابات تطلع فجأة من هذا الهواء، ككل هذا، هي تلك الموسيقى التي تأتيك، من زاوية على شارعٍ كنت ستمرَّ بها دون أن تعيرها حتى التفاتة، أو من شارع فرعي، يجاور ذاك الشارع الذي تعبره يوميّاً، ولا تعرف حتى نوع الورود التي تنبت على جانبيه. نعم، هي الموسيقى القادمة من قلوبٍ تقفُ على رؤوس أصابعها، لتعزف لنا من جديد أصوات قلوبنا الصامتة.
عازفو الشوارع، تلك الظاهرة التي تحتفي بها المدن الأوروبية، هي الظاهرة التي تعطي المدن الكبيرة والمكتظَّة لوناً وطعماً. وهي الظاهرة التي تحول كل هذا الجماد وكل هذا العالم المادي، إلى عالم قابل للحب وقابل للحياة هنا في سيغوبيا، في إسبانيا، مدينة القناطر والماء والإلفة، مدينة الحجر والجمال والتاريخ، ومدينة الحاضر السياحيّة والمتألّقة، أمسكت بقلبي موسيقى قادمة من آخر الشارع الطويل الذي يصل من ساحة الأركوبوليز إلى القصر، والذي يمتلئ بآلاف العيون القادمة لترى المدينة. أمسكت تلك الموسيقى بقلبي، وشدَّته من شعر أحلامه الطويل. وكعادتي، لحقت الهواء الذي يحملها. كنت أعتقد أنّي سأجد عازفاً عجوزاً يمسك كمنجته القديمة، ويعزف عليها حياته التي هربت من بين خصلات شعره البيضاء. لكنها المرة الأولى التي تسبق فيها عيني أذني، والتي أنسى فيها الموسيقى قليلًا، وأنظر بدهشة بالغة إلى تلك الشابة الوادعة النحيلة، والتي كانت تعزف بطريقة مدهشة وجذّابة وذكيّة، جعلت كل من يعبرها، يقف أمامها حتى تنهي معزوفتها. هذه المرأة التي كانت ترتدي الزي التقليدي لأوروبا الشرقية، والتي كانت تضع أمامها تلك العلبة الصغيرة، كي ترن فيها بعض السنتات من أصابع من عبرها، وأحس أنها مبدعة، واستطاعت أن تفرحه قليلاً، تلك المرأة لم تكن تعزف بأصابعها هي، وإنما كانت تحرك بأصابعها الطوية دمية جميلة، تحمل كماناً خشبياً صغيراً، لتعود الدمية بدورها، وبسبب الخيوط التي تربط أصابع الدمية بأصابع الفتاة، بالعزف على كمانها الصغير، تلك القطعة الموسيقية الجميلة. أدهشتني جداً هذه الفكرة البسيطة والجميلة، أدهشني ذكاء هذه المرأة باختراع طريقة تجعلها تلفت انتباه كل عين تعبرها، وأدهشتني، أيضاً، براعة هذه الصبية في العزف، والتحكم بالخيوط التي تتحكم بأصابع الدمية التي تعزف. وأدهشتني، أيضاً، ضحكتها الآسرة التي كانت تسيل من زاوية فمها، وشرود نظرتها الجميل. هكذا، كانت هذه الشابة القادمة من أوكرانيا، والتي تعيل طفلتها الوحيدة، والتي تقدّم لكل من يمر بها، عالماً يمزج بين الموسيقى والجمال والدهشة، عالماً كاملاً من الفن على قارعة الطريق، وبالمجان. هي لا تطلب منك شيئاً، فقط تبتسم للعيون ابتسامة خجولة، وتشكر بعينها بكل عزة نفس وحب، كل من وضع القليل في علبتها المعدنيّة، مُحرّكةً دميتها بحركات تدل على هذا الشكر.
هكذا هم هنا، هؤلاء العازفون الجميلون، يُقدِّمون لك الجمال بدون أية زخارف أو ادّعاء، يجعلون الحياة أسهل قليلاً، ويجعلون المدن أقل وحشة، والغربة أقل غربة. هكذا بموسيقاهم، يعيدون إليك بلادك التي كانت جميلة قبل الحرب.

المساهمون