"ليس للمسرح ذاكرة"، تقول الكاتبة المسرحية البريطانية سارة كين وترى أن هذا النفي يجعل المسرح أكثر الفنون وجودية.
باحثون وأكاديميون ناقشوا، على مدار يومين، مسألة هذا النفي في جلسات تحت عنوان "المسرح والذاكرة، مسرحة الأرشيف" خلال الدورة الحالية لـ "مهرجان طنجة للفنون المشهدية"، الذي ينظمه "المركز الدولي لدراسات الفرجة".
حول سؤال الأرشيف والمسرح والعلاقة بينهما، يقول مدير المركز خالد أمين: "نحاول في هذه الجلسات أن نجترح الأسئلة المرتبطة بذاكرة الجسد المسرحي خلال سنوات الرصاص المغربية وسنوات الربيع العربي"، ويضيف لـ "العربي الجديد": "تحدثت عن شهادات لمعتقلين سياسيين سابقين من النساء تحديداً، حصلت عليها من "هيئة الإنصاف والمصالحة" في المغرب، واشتغلت عليها انطلاقاً من رؤية دراسات الفرجة".
يلفت أمين إلى أن "الفرجة آنية زئبقية تختفي بمجرد وقوعها وزوالها يجعلها صعبة التوثيق". ولكن السؤال هو أين تختفي هذه الفرجة؟ طرحت النقاشات إعادة تجسيد الذاكرة من خلال إعادة أداء فرجات سابقة، هنا يذكر أمين تجربة مرينا أبراهمافويتش، يقول "نعتبر هذه المرأة جدة فنون الأداء في أوروبا، حيث أعادت أداء مسرحيات قدمتها في الستينيات والسبعينيات عامي 2007 و2008 للبحث في اختفاء الفرجة بعد أدائها، ما يجعل لها خصوصية، إذ يمكن اعتبارها هي نفسها شكلاً من أشكال الأرشيف".
في هذا الإطار، كانت مسرحية "شجر مُرّ" التي عُرضت ضمن فعاليات المهرجان مقتبسة عن "مذكرات تازمامرت"، وتعدّ نموذجاً لمسرح مأخوذ من ذاكرة واقعية؛ شهادات لمعتقلين مغاربة في "سنوات الرصاص" كالتي تناولها أمين في ورقته البحثية. وجدت وقائع "شجر مُرّ" مرجعاً لها في الكتابات السردية التي أرّخت تلك الفترة من تاريخ المغرب، ثم إلى شهادات المعتقلين السابقين.
بدوره، تناول الباحث العراقي محمد سيف في ورقته شهادة جان جينيه "أربع ساعات في صبرا وشاتيلا"، واعتبر أن التعامل مع تقرير المسرحي الفرنسي على الخشبة ليس سهلاً: "لا بد من القيام بكتابة جديدة، تسمى الدراماتورجية، تخضع فيها نص جينيه لآليات المسرح وكيفية تقديمه أمام جمهور لم يعش حالته. علينا التصوير بطريقة الشرح، والوصول بكلماته إلى المتفرج من خلال الحركة والجسد والأقنعة واستحضاره على الخشبة وإعادة ما حدث إلى الأذهان".
بالعودة إلى علاقة المسرح بالأرشيف، ترى مديرة "المعهد الدولي لتناسج ثقافات الفرجة" في برلين إيريكا فيشر ليتشه أن "المسرح والأداء مختلفان، الأداء لديه بعض الشروط والأمور الخفية، أما المسرح فيحقق استدامته من الأداء الفني". ليتشه غير متفائلة باستخدام التكنولوجيا في أرشفة المسرح، معللة بأننا "متأخرون سنوات طويلة، وأن قدرة الأفلام على الأرشفة تسبق كل شيء".
علاقة الذاكرة بالمؤسسة الدينية موضوع آخر تطرق إليه مدير معهد البحوث الدولية جابريل براندشتيتر من خلال استحضار اكتشاف المقبرة الجماعية التابعة لدير في إيرلندا خلال التسعينيات، والتي دفن فيها 36 طفلاً وامرأة ما بين (1925 - 1961)، إذ لم يسمح لهم بالخروج منه حينها، يقول براندشتيتر: "وجدت الأفلام والتلفاز والصحافة طريقها إلى الأرشيف، أمّا المسرح فكان همّه الحيلولة من دون اختفاء الأمهات المدفونات".
في حين قدّمت رئيسة المسرح في "معهد غولدسميث" في لندن ماريا شيفستوفا تجربتها في قراءة المسرح الروسي بقولها: "الذاكرة أصبحت ماضٍ، ولكن الأرشيف يسمح بالحفاظ عليها لأن العلاقة بين الناس والأشياء هي التي يتم تسجيلها كما في أعمال شكسبير. وهي غير قابلة للتمثيل أو التقليد أو الترجمة".
وتردف: "الأرشيف هو مخزن الذاكرة، ولكنها تبقى غير موضوعية، بل ذاتية ومحكومة. منذ 1924 تم العمل على الذاكرة الجماعية ووصلنا إلى أن الذاكرة لا يمكن جمعها في مكان واحد، وما يعتبر ذاكرة فردية إنما هو جماعية لأنها تجمع بين ضمائر وعواطف ومعلومات وطرق معيشة وغيرها". تخلص شيفستوفا إلى أن تجربة المسرح في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي "عكست ذاكرة الشباب المبنية على عدم الثقة وغياب النموذج"، مبينة أن المسرحيين يعكسون الحاضر.
فيما يتعلق بالأرشيف المسرحي و"الربيع العربي"، تناول الباحث المصري محمد الخطيب الأرشيف والمسرح ما بعد ثورة يناير: "تدخل الذاكرة المسرحية مع نظامها المعرفي في صراع مع القوى الدينية والسياسية وغيرها، والتي تحاول فرض وصايتها وتخضعها لحراسة مشددة، ولكي يؤسس المسرح حضوره المختلف يبدأ بمقاومة تلك القوى وذاكرتها المدونة جمالياً ومعرفياً"، من هنا: "عقب ثورة يناير أصبح الأرشيف متاحاً للجميع، وظهرت عروض مسرحية تتحدث عنه. ولكن السؤال يبقى ماذا لو تمكنت تلك العروض من فضح الأرشيف، واستطاعت أيضاً تكوين ذاكرة مضادة معرفياً وجمالياً لذاكرة السلطة؟".