طفّار لبنان.. العدالة ليست في يد "أمراء الحرب"

12 فبراير 2015
غالباً ما يختبئ "الطفار" في الجرود (نبيلة غصين)
+ الخط -

تقطنُ في منطقة البقاع شمال شرق لبنان، ذات الغالبية العشائرية، مجموعة يطلق عليها اسم "الطفار". صدر بحق هؤلاء مذكرات توقيف عدة، لارتكابهم جرائم يعاقب عليها القانون. لكنهم يرفضون المثول أمام القضاء، ويفضلون الموت أو الهرب والعيش في الجرود. يعيشون في أحياء يتولى أبناء عشيرتهم حمايتها، ولا تدخلها الدولة إلا في أوقات معينة ولأهداف محددة. يفوق عددهم الثلاثين ألفاً.

يعمل معظم الطفار في زراعة نبتة الحشيشة، التي لطالما شكلت مورد رزق لسكان هذه المنطقة. بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (أواخر الثمانينيات)، منعت هذه الزراعة. حينها، حاولت الجهات المعنية اقتراح زراعات بديلة كالبطاطا والشمندر السكري، إلا أن أسباباً عدة حالت دون نجاح هذه الزراعات، منها غياب دعم الدولة في ظل المناخ الجاف والحار، مما دفع المزارعين "الطفار" إلى العودة إلى زراعة الحشيشة كمصدر رزق لهم، حتى لو كان هذا العمل مخالفاً للقانون.

طفار آل جعفر

في حي الشراونة، يقطن غالبية طفار عشيرة آل جعفر في مدينة بعلبك. عند مدخله، يستقبلك عناصر الجيش الذين يحاصرونه. بعد اجتياز الحواجز، نصل إلى شارع ضيق، تتفرع منه أزقة كثيرة تؤدي إلى منازل العائلات والطفار. تكاد أشجار الصنوبر الكثيرة تحجب الرؤية. تحكي آثار الرصاص على جدران المنازل قصص المعارك والاشتباكات المتكررة بين الجيش والطفار وعائلاتهم. لا يخرجون من هذا الحي إلا في حال حدوث مواجهات عنيفة. لديهم طرقهم الخاصة للهرب إلى الجرود والجبال والأودية. سيارات الدفع الرباعي جاهزة دائماً، وتكون عادة مليئة بالأسلحة والعتاد.

رؤيةُ الشباب والرجال المدججين بالسلاح أمر مألوف هنا. يرتدون بذلات عسكرية ويتجمعون أمام منازلهم، التي تتكون بمعظمها من طبقة أو اثنتين على الأكثر. علي (18 عاماً) هو أحد هؤلاء. يعمل في تجارة الحشيشة بين بيروت والبقاع. برأيه، لا تهتم الدولة بإعمار هذه المنطقة (البقاع). ولأنه لا توجد فرص عمل للشباب، يضطرون إلى تحصيل لقمة العيش من خلال بيع الحشيشة. معظم أفراد عائلته مطلوبون للعدالة. يقول إنه، منذ نشأته، وهو يرى كيف تعامل الدولة الطفار من أبناء عشيرته. في كل عام، يقتل أحد أقربائه. يشرح أنه إذا باع الفرد القليل من الحشيشة، فإنه لن يستطيع شراء المواد أو الأدوات اللازمة للتدفئة. يرفض علي تسليم نفسه للعدالة، لأن جميع الزعماء كانوا مجرمين خلال الحرب الأهلية ولم تتم محاكمتهم. بالنسبة إليه، الموت أرحم من أن يسجن لدى مجرمين. يقارن بينه وبين الوزراء والنواب الذي يسرقون البلد ولا يلاحقهم أو يحاسبهم أحد. أما هم، فيلاحقون لأنهم يزرعون الحشيشة لتأمين لقمة عيشهم.

لغة خاصة

يملك أبناء عشائر المنطقة أجهزة لاسلكية. نادراً ما تجد شخصاً لا يحمل جهازاً مماثلاً في يده. يستخدمونها لتحذير بعضهم بعضاً في حال كان هناك تحرك غير اعتيادي للقوى الأمنية. لديهم لغتهم الخاصة. وفي حال وقوع اشتباكات، تتدخل باقي العشائر لتأمين الدعم. ويطلقون بدورهم النار في الهواء لتشتيت الانتباه. يعدّ مروان من الطفار القدامى، وقد تجاوز الخمسين من عمره. كان في السابعة عشرة حين اتهم بجريمة قتل. لجأ إلى الاختباء في خزان مياه فارغ وضخم في الجرد لأكثر من خمسة عشر عاماً. طيلة هذه المدة، كانت شقيقاته السبع يتعاونّ على إعالته. كل أسبوع، تقصده إحداهن محملة بالطعام والثياب النظيفة. يوضح أن هذه كانت حياة الطفار من قبل. اليوم، باتت الأمور أفضل. يستطيعون البقاء في المنطقة، لكنهم لا يباتون ليلهم في منازلهم خوفاً من المداهمات. يروي مروان كيف استيقظ في أحد الأيام، بسبب وجع مبرح في ضرسه. صار يضربه بالحجر مما تسبب له بالتهابات حادة، فاضطر لإيجاد طريقة للذهاب إلى الطبيب. جهّز سيارة مليئة بالسلاح. وقد رافقته النساء والأطفال في رحلته لإبعاد الشبهات.

ذلك اليوم رافقته جينا، التي كانت في الثالثة عشرة من عمرها. تخبرنا عن الدور الذي تؤديه المرأة في العشيرة لحماية ومساندة "الطفار". لدى مداهمة الأحياء بهدف إلقاء القبض على الطفار، يشارك معظم السكان في مواجهة القوى الأمنية، وتقف النساء والأطفال في وجه الملالات وآليات الجيش لعرقلة تقدمها. أما الأولاد، فيضعون الحجارة وسط الطريق لكسب أكبر وقت ممكن حتى يتمكن الطفار من الهرب. وغالباً ما تعمل المرأة مكان الرجل في الزراعة والتجارة عند إلقاء القبض على الزوج.

تصنيفات

هناك تصنيفات عدة للطفار. التقليديون الذين يرتكبون الجرائم للدفاع عن كرامة العشيرة، والتاريخيون الذين قاوموا السلطنة العثمانية والانتداب الفرنسي، وأولئك الذين يزرعون الحشيشة ويتاجرون بالمخدرات. تفتخر العشائر بهؤلاء لأنهم يحصلون على المال بعرق جبينهم. هناك أيضاً الذين يرتكبون جرائم تمس بشرف العشيرة كالسرقة أو الخطف، بالإضافة إلى "الوهميين" الذين يشكلون الأكثرية الساحقة اليوم، وغالبيتهم من المراهقين. يرون أن سياسات الحكومة مسؤولة وكيفية تعاملها مع الموقوفين تؤدي إلى زيادة أعدادهم. فعندما يتم القبض على أحد المطلوبين، يتعرض لضرب مبرح بهدف الاعتراف والإدلاء بأسماء المتعاملين معه. أحياناً، يدلون بأسماء لا علاقة لها بهم، قد تكون لمسنين أو أطفال أو موتى، للتخلص من التعذيب.

من جهة أخرى، غالباً ما يكون هناك تشابه في الأسماء على غرار اسم علي، الذي ينتشر بكثرة بين العشائر. وينص القانون اللبناني على أن كل من يرد اسمه في التحقيقات يصبح مطلوباً للعدالة. بالتالي، يصير كل من يحمل اسم علي مطلوباً، ويكون وهمياَ كونه لم يرتكب أية جرم.
يرى الطفار أن الدولة هي بمثابة "عصابة" مكونة من مجموعة لصوص يريدون فرض القانون عليهم. أكثر من ذلك، فإن بعض عناصر القوى الأمنية التي تقبل الرشى، تخبر الأشخاص الواردة أسماؤهم في التحقيقات عن استعدادهم لإزالتها في مقابل الحصول على خمسة آلاف دولار، مما يعني أن من يملك المال يُعفى عنه. هذا هو حال منطقة البقاع وأبناء العشائر. الأجداد والآباء كانوا طفاراً، وأولادهم أيضاً.
المساهمون