تلاحظ بعد عمر، أنّك وغالبية من الزملاء، طفيليّو أفكار وتقنيات. سيعترض بعضهم ويقول إن المنجز البشري، في حقل الثقافة، منجز كوني ملْك للإنسانية كلّها. بالطبع، لا اعتراض.
مع ذلك، فالحقيقة هي الحقيقة: مثقّفو وأدباء ما بعد الاستعمار، عاشوا على ما يردهم من جغرافيات المستعمِرين سابقاً؛ فرنسا وإنجلترا تحديداً. تأثير ثقافتَي هذين البلدين، واضح وجلي على مدوّنتنا الأدبية والثقافية (بالذات الأخيرة) منذ أواخر القرن التاسع عشر. أي منذ رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، مروراً بتوفيق الحكيم وجيله، وانتهاءً بجيل الإنترنت.
وأنت حين تنظر وتستقصي التجربة اللاتينية الفريدة، في طبعتها الأدبية بالخصوص، تُصاب بالدهشة. فظروفهم أقرب ما تكون إلى ظروفنا: استعمار خفيّ وفساد مستشرٍ وفقر وآمال، ودكتاتوريّات. بل حتى البيئة تتشابه وإن لم تتطابق. فلِمَ أنتجوا هذا الأدب المبهر، شعراً وروايات وقصصاً قصيرة (لن نتكلّم عن بقية الفنون)، بينما عجزنا نحن، وفي حالات معدودة فقط، أنتجنا أدباً أصيلاً، يرقى إلى السويّة الإنسانية؟
ألأنهم كانوا "مبهورين" بثقافة المتروبول الأوروبي، على نحوٍ أدنى كثيراً مما فعلنا نحن؟
في الواقع، هذه "الأصالة" في الإنتاج، تشي بإيمانهم الكبير بما يملكون. أما نحن، فعين في الجنة وعين في النار، على أحسن الأحوال. ولا يطلب مني أحد تحديد المقصود بالمفردتيْن.
أدب وثقافة أميركا اللاتينية غطّى حتى على الأدب الإسباني "الأُم"، ليس فقط عندنا، بل في غير بلد على امتداد العالم. ولا شك أنه يستحق كل ما وصل إليه. لأنه التفت إلى بيئته وناسه، وحمل بصمته من دون استلاب.
ونحن كمستوردي ثقافات، يسعدنا هذا على نحو خاص. فآداب وثقافات الفرنسية والإنجليزية، شاخت وتكاد لا تحمل جديداً.
أهلاً بأدب اللاتينيين الطازج والشاب، إذاً. ولنعش نحن، على خبز القريب الأسمر، أجدى بما لا يُقاس، من أن نعيش على خبز البعيد الأبيض، حتى تعبر هذه المرحلة من حياة شعوبنا، ونؤوب إلى أنفسنا، بعد توهان طويل.
إنها لا شك مرحلة يتشكّل جنينُها الآن، وحتماً ستشهد وليدَها أجيالٌ مقبلة.