للوهلة الأولى توحي تجربة الموقع الفرنسي الإلكتروني "ميديا بارت"، بغلبة النشر الرقمي على النشر الورقي، خاصة أن المفهوم الذي قام عليه هذا الموقع الناجح - "تجاريًا" أيضًا -، منبثقٌ من ثورة الاتصالات، التي أطاحت بضربة واحدة: الورق والتوزيع والطباعة؛ أي ثلاثة أمور حاسمة في تحديد تكلفة أية صحيفة. هذا ما يستهل به أجوبته، ضيف هذا العدد من "ملحق الثقافة"، الفرنسي إيدوي بلينيل مؤسِس موقع "ميديا بارت" ورئيس تحريره. لكنه، وإذ تكلم "لغة الأرقام"، لم تنقصه الجرأة، لتحديد أهل "الأرقام"، وكيف التهموا عالم الصحافة والإعلام الفرنسيين، من خلال شراء كبريات الصحف وأشهرها، بغية التحكّم بمضمونها وتوجهاتها، كي تكون دومًا في خدمة "أرقامهم" لئلا تعرف تقريبًا غير النمو والازدهار، وصولًا إلى التراكم الهائل. القصد هو النقود؛ الحصول عليها ومراكمتها، لشراء، عبر النفوذ، استمراريتها وتدفقها. النقود المتراكمة أرقامًا، لا يمكن عدّ أصفارها؛ هي مزاج الغني الثري، مضمار نزواته، ورهن رمشة عينه.
اقرأ أيضًا: عولمة مقلوبة
وربما يوحي خبر التوقف عن إصدار النسخة الورقية لصحيفة "الإندبندت" البريطانية، والاقتصار على حلّتها الرقمية، بغلبة الإلكتروني أيضًا، كما نرتاح للقول عادة، عند كل مفاضلة بين النوعين. لكن معرفة أن مالكها رجل أعمال روسي، صاحب علاقات متشعبة مع الساسة الروس، يبيّن أن الأمر لا يتعلق بغلبة ولا تكلفة تمامًا. إذ إن أسهل الطرق وأقصرها لخفض تكلفة صحيفة؛ إقفالها ورقيًا وإلكترونيًا. لكن المالك لا يفعل ذلك، إذ هو يريد هذه "المنصة" الصحافية، ويريد التحكم بمضمونها، أمّا فكرة التكلفة وهدف تخفيضها، فإنها ليست إلا تمرينًا لابتكار طرق في ذر الرماد في العيون.
ستبدو الأمور أوضح كل مرة يُنظر إلى الأمر، من عين أهله. وفي حال الصحافة وتأثيرها والتحكّم به، سيكون لطيفًا الاطلاع على العدد الأخير من دورية "الصحافي" الصادرة عن نقابة الصحافيين البريطانيين (NUJ)، حيث ثمة مقالٌ مكرّس للبحث في موقف كبريات الصحف البريطانية من الاستفتاء حول عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. أهمية المقال تأتي من تسليطه الضوء على واقع فادح: كبريات الصحف البريطانية مملوكة لشركات Off-Shore، ومن نافل القول إنها لا تدفع ضرائب للمملكة المتحدة. ومن نافله أيضًا أن مالكي تلك الصحف هم رجال أعمال، بقطع النظر عن قطاع أعمالهم (عقارات، بناء، أسلحة، اتصالات، سلع فاخرة، الخ). القصة التي تسلّط المجلة الضوء عليها، هي التكهن بموقف تلك الصحف من الاستفتاء، خاصة أنها دأبت خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية على وصم الاتحاد الأوروبي بكل سلبية وخسارة. وقد ظهرت "الآثار اللغوية" لهذا التوجه من خلال لفظين: Brexit (حاصل دمج المقطعين Britain وexit) وEuroscepticisme، ومن خلال بالطبع "توجهات" رؤساء التحرير المنسجمة تمامًا مع توجهات مالكي الصحف.
اقرأ أيضًا: عين الفيلسوف
تتميز تجربة "ميديا بارت"، بأنها أرادت تجنّب "أهل الأرقام" تمامًا، ورأت في الرقمي، دربًا ممكنة التعبيد، لا من أجل التكلفة بل من أجل الاستقلال. إذ إن تلك المقارنة المتكررة والممجوجة بين الورقي والرقمي، تؤدّي دومًا إلى طريق معروف؛ إظهار مزايا كل خيار وعيوب الآخر، بطريقة نكاد نحفظها عن ظهر قلب. طريق لا يقنع بأفضلية خيار على آخر، ولو كان مسلّحًا بمقال بليغ للراحل مؤخرًا إمبرتو إيكو، أو بقوّة انتشار وتواتر ظهور صفحة مارك زوكربيرغ نفسه في الفيسبوك.
ورقية أكانت الصحيفة أم رقمية، فإن مضمونها هو الطريدة؛ طريدة القارئ. إذ يكفي النظر في العدد الهائل للمواقع الإلكترونية المنتشرة على الأنترنت، وعقد المقارنة بينها لمعرفة قوّة المضمون في الجذب المستدام. ذلك لأن عالم الشبكة العنكبوتية، يتيح لأصغر عدد ممكن إنشاء منصة "إعلامية"، وتستطيع تلك المنصة الوصول إلى أكبر "شريحة" من خلال طرق معروفة وموصوفة ومقننة تحت مسمى "السوشيال ميديا" في كل موقع أو منصة. لكن ذلك لا يعني أن تلك "المنصة" تمثل شيئًا فارقًا، في بحر المواقع والمنصات الإعلامية على الشبكة، ما يفتح نافذة للسؤال عن المقارنة "العادلة" بين الرقمي والرقمي، انحيازًا لعامل المضمون في جذب القارئ، مع تحديد نوع "القارئ" المراد صيده. من شأن أمر مماثل، توسيع زاوية النظر، والاقتراب أكثر من أرض الواقع؛ الرقمي للجميع، يفتح قوسًا من المبتذل حتى الأكاديمي. تمامًا كما الورقي للجميع، يفتح القوس ذاته. أما العلامة الفارقة، ففي اختراق ما هو متوقع، وتطويع الرقمي، ليتألّق "المضمون"، الذي هو في أصله سليل الورقي، إذ إن ما صنع "ميديا بارت"، مضمونها، لا شيء آخر. مضمونها، طريدة القارئ.
اقرأ أيضًا: سلوك الكراهية