طرطوس مدينة بلا خيارات

02 يونيو 2015
صور القتلى تملأ طرطوس (جوزيف عيد/فرانس برس)
+ الخط -
عند الوصول إلى مدخل محافظة طرطوس الساحلية، تستقبلك صور قتلى القوات النظامية ومليشيا "الدفاع الوطني" (الشبيحة) وغيرها من الفصائل الموالية، معظمها لشباب يافع. ترتص الصور حتى على جدار مرآب الحافلات العامة داخل المدينة، خلفهم صور رئيس النظام السوري الراحل حافظ الأسد، وابنه بشار، إضافة إلى العلم السوري. ولا تخلو بعض هذه الصور من الرموز الدينية.

اقرأ أيضاً: رستم غزالي وعدالة الأسد

وجوه الناس في شوارع المدينة تعبة شاحبة. مدينة الفقر، كما كانت تُدعى سابقاً، حصلت على لقب جديد بالنسبة لأهلها هو "مدينة الشهداء" نسبة إلى العدد الكبير من القتلى الذين سقطوا في قتال المعارضة السورية المسلّحة. يقول أبو علي، لـ"العربي الجديد"، وهو رجل في ستينات العمر، يعمل كسائق سيارة أجرة من طرطوس، إن "أهل طرطوس فقراء طوال عمرهم. ولا يوجد اليوم منزل إلا وفيه فاجعة، لقد خسرنا شبابنا. خسرناهم بلا مقابل. وكل يوم نخسر المزيد من الشباب"، ذاكراً أنه "خسر ابنه الذي كان ضابط شرطة في حلب، تاركاً له حفيدين وأرملته".

ويضيف أبو علي أن "الناس هنا تعبت من الحرب، صار لنا أربع سنوات كل يوم نخسر أبناءنا ولا نحقق شيئاً على الأرض، وحياتنا تسوء يوماً بعد آخر. ترتفع الأسعار بشكل متواصل والعمل يصبح أصعب، حتى أنه لم يعد يؤمن كفاف يومنا".

من جانبه، يقول دريد، وهو شاب من طرطوس في عشرينات العمر، لـ"العربي الجديد": "لم ألتحق بالجيش السوري، وقد شجعني أخي المتطوع في الجيش منذ 10 سنوات"، مبيناً أنّ "عائلته لديها سبعة شهداء من عمومته وأبناء عمومته".

وأعرب عن "اعتقاده أنّ الخسائر التي يتعرّض لها الجيش وتودي بحياة الجنود، هي بسبب الخيانات. هناك من يبيع الجنود والمواقع أو يتخلى عنهم، وهناك قصص كثيرة يتناقلها الناس حول ذلك".

ويشير مصدر أهلي مطلع في طرطوس، طلب عدم نشر هويته، أن "عدد الممتنعين عن الالتحاق بالجيش من أبناء طرطوس يقدر بنحو 20 ألف شاب"، لافتاً إلى أن "الأسباب الكامنة وراء تطوع الشباب في الفصائل المسلحة الموالية، بشكل رئيسي هي اقتصادية مدعومة بالخوف من الطرف الآخر حيث تتزايد مخاوفهم على حياتهم ووجودهم في مناطقهم".

ويوضح أن "رواتب الفصائل المسلّحة وشكل الخدمة فيها أفضل بكثير من الجيش، فهناك من يفرّ من الجيش ويلتحق بتلك الفصائل التي يصل الراتب الشهري مع المهمات في بعضها إلى نحو 70 ألف ليرة، في حين متوسط راتب العسكري في جيش النظام 20 ألفاً، إضافة إلى أن ثقتهم أكبر بأن لا خيانة في تلك الفصائل، وحقوقهم محفوظة أكثر".

ويقول المصدر نفسه إن "طرطوس محافظة فقيرة؛ فمن جهة، هناك ضيق مساحات الأراضي الزراعية المعتمدة على الأمطار، ومن جهة ثانية، يوجد عدد قليل من المنشآت الاقتصادية الكبيرة والمتوسطة. وحتى المنشآت السياحية فيها قليلة، ومستوى خدماتها منخفض. والبنية التحتية رديئة، وسبق أن جرى الحديث في عام 2010 عن العمل على نهضة اقتصادية في طرطوس وعشرات المشاريع، إلا أنها لم تُبصر النور، بحجة الأزمة التي تمرّ بها البلاد".

ويبين أن "خيارات الشباب في المحافظة ضيقة جداً في ظل الفقر المدقع؛ فإما أن يكمل تعليمه على أمل أن يحصل على وظيفة في الدولة، أو أن يتطوع في الجيش أو الأمن طمعاً في الراتب، ومعظمهم لديه عمل إضافي، كسائق سيارة أجرة أو بأعمال البناء، كي يتمكّن من تأمين قوته اليومي".

وزارت "العربي الجديد" العديد من قرى ريف طرطوس. وتتميز هذه القرى بهوية الأهالي الدينية، فمنها قرى ذات غالبية علوية يكثر عدد قتلاها الذين سقطوا في المعارك ضدّ المعارضة، وفي مقدّمتها دريكيش، في حين يقل عدد القتلى في القرى المسيحية، المعروفة بكثرة مغتربيها، والإسماعيلية منخفضة التعداد.


وفي عام 2010، بلغ عدد سكان محافظة طرطوس نحو 900 ألف نسمة يتوزعون بنسبة 1 في المائة من الاسماعيليين و9 في المائة من المسيحيين و35 في المائة من السنة و55 في المائة من العلويين. ويفيد "المرصد السوري لحقوق الإنسان" المعارض أن "نصف قتلى النظام ينحدرون من طرطوس" يضاف إليهم آلاف المصابين والمفقودين، أما مدينة طرطوس فكانت تضم فقط السنّة والمسيحيين، ولكن بعد إلحاق بعض الضواحي ذات الغالبية العلوية بها، أصبحت تضم أكثر من 50 في المائة من السنة ونحو 30 في المائة من المسيحيين، فيما تشكل الطائفة العلوية أقل من 20 في المائة من سكان المدينة".

وأد الحراك السلمي

يقول الناشط المعارض سومر، من طرطوس، لـ"العربي الجديد"، "مع بداية الحراك السلمي في سورية عام 2011، ظهر نشاط لمجموعة من الشباب والمثقفين في طرطوس، غالبيتهم من أبناء المدينة القديمة، يسخطون على الفقر وسوء الأوضاع. كان معلوماً لدى أهالي طرطوس أنهم يجتمعون في مقهى "شببلك"، إلى أن قام الأمن بالهجوم على المقهى بطريقة استعراضية، واعتقل جميع من كان في المقهى لفترات متباينة بين ساعات وأيام".

ويضيف سومر "بعض من تم اعتقاله تعرّض للتعذيب والإهانات. وبعد إطلاق سراحهم، غادر البعض منهم البلاد، وامتنع آخرون عن التعاطي بالسياسة". ويرى أن "النظام نجح في زرع الخوف بقلوب الناس".

ويشير إلى أنّه "على الرغم من أنّ الناس يسرّون لبعضهم الكثير من الانتقادات على أداء النظام وسوء إدارته للأزمة، والغبن الذي ينالهم رغم كل تضحيات ودماء أبنائهم، إلا أنّهم من جهة ثانية لا يجدون بديلاً عن القتال في صفّه، معتبرين ذلك دفاعاً عن أنفسهم وليس دفاعاً عنه"، معتبراً أن "الشعارات الطائفية التي أطلقت من قبل بعض عناصر الفصائل المسلّحة المناوئة للنظام ساهمت في إثارة نعراتهم، إضافة إلى أنهم لم يقدموا نموذجاً أفضل من النظام، إن كان مع المعارضين لهم أو حتى أسراهم من الجنود والمدنيين، فأصبح الخيار العسكري دفاعاً عن النفس".

شراكة الريبة

 تعتبر مدينة طرطوس، تاريخياً، ذات طابع سنّي، قبل أن تأتيها هجرات الأرياف، كحال جميع المدن، جراء عدم وجود تنمية متوازنة. تظهر الريبة من الآخر، في أحاديث أبناء المدينة، رغم عدم وقوع مواجهات بين الأهالي كما حدث في حمص مثلاً. تقول رويدة من ريف طرطوس لـ"العربي الجديد"، بصوت خافت "لم تحدث مشاكل في المدينة، لكن الخوف زرع في داخلنا من الآخر. لم أزر المدينة القديمة أو جزيرة أرواد ذات الغالبية السنية منذ نحو ثلاث سنوات، لدي قريبة خطفت بريف دمشق لأكثر من سنة فقط لانتمائها الديني"، قبل أن تكمل سيرها تتفحص الوجوه مرتابة من المارة.

اقرأ أيضاً: المعارضة المسلحة تضرب تجارة النظام السوري

ثم تتابع "مع ازدياد عدد النازحين إلى المحافظة من المناطق الساخنة، لما يماثل عدد السكان الأصليين تقريباً، وقيامهم بالتملك وإنشاء أعمالهم الخاصة، يشعر الأهالي بمخاوف عديدة، وفي المقدّمة تغيير واقع المحافظة الديموغرافي، وانتقال المواجهات إلى داخلها، إضافة إلى سخطهم جراء تحميلهم النازحين جزءاً من تدهور أوضاعهم الاقتصادية، من ناحية ارتفاع أسعار العقارات والمواد الغذائية جراء زيادة الطلب، والتزاحم على فرص العمل".

وتقع محافظة طرطوس على بعد 250 كيلومتراً من العاصمة السورية دمشق. وتمتد على البحر الأبيض المتوسط لمسافة 90 كيلومتراً، لتحتل المرتبة الثانية عشرة من ناحية المساحة الجغرافية وتعداد السكان من بين الأربع عشرة محافظة سورية. وكانت المقصد السياحي للسوريين قبل عام 2011 من مختلف الطبقات، عبر رحلة تستغرق من دمشق نحو ساعتين ونصف الساعة. أما اليوم، تتجاوز الرحلة إليها الأربع ساعات وقد تصل إلى ست ساعات، جراء انتشار حواجز القوات النظامية.