وجاء هذا الوعد، الذي لم يكن الأول، بعد ساعة من تعبير مسلحين ملثمين، في بيان مصور، عن استعدادهم لاقتحام مقار المجموعات المسلحة في طرابلس، وتنفيذ أوامر حفتر، كما نادت مجموعات أخرى، خلال احتجاجات شعبية الجمعة الماضية، بدخول حفتر للعاصمة، قبل أن تتعرض لإطلاق نار عشوائي مجهول، غير أن الجنرال المتقاعد يدرك صعوبة تسويق الحرب على أساس محاربة الإرهاب في العاصمة.
عقبات تعترض مخطط حفتر
ويسجل ملاحظون أن حفتر لم يخض الحرب إلا في مدينتين، هما درنة وبنغازي، أما باقي الأقاليم فقد أعلنت ولاءها له دون قتال، بسبب هيمنة الحكم القبلي فيها.
وقد استعصت بنغازي ودرنة، اللتين تمثلان مدنا تجمع كل أطياف وقبائل ليبيا، على حفتر، ولايزال القتال فيهما مستمرا حتى الآن، رغم مرور ثلاث سنوات.
ورغم أن طرابلس تشهد فوضى أمنية، إلا أن بنيتها الثقافية والاجتماعية محصنة جيدا، لوجود الزوايا والمدارس العلمية القديمة، التي تحدّ من عدم انتشار الفكر المتطرف، وأقرب مثال على ذلك فشل التيار السلفي المدخلي في تسجيل حضوره فيها.
ومن ناحية أخرى، فإن محيط طرابلس، أو ما يطلق عليه "طوق العاصمة الجغرافي"، تختلف تركيبته القبلية عن شرق البلاد، إذ لا توجد رابطة واحدة تجمع كل هذا الخليط القبلي لتشكل خزانا بشريا يغذي حرب حفتر إن وقعت.
فالزاوية وجنزور من الغرب، والقربولي وترهونة من الشرق، توجد بها فصائل قبلية معارضة لحراك حفتر، بالإضافة إلى ورشفانة، الواقعة جنوب غرب العاصمة، والتي شكلت في السابق "جيش القبائل"، الموالي للنظام السابق، حيث احتدم الخلاف بين قياداتها وحفتر إثر إقدام الأخير على إقالة قائدها العسكري الأبرز عمر تنتوش.
وبتجاوز الزنتان، المدينة الأقوى غرب البلاد، التي أصبحت منقسمة على نفسها بشأن تأييد حراك حفتر منذ انكسار قوتها خلال "حرب فجر ليبيا" نهاية عام 2014، فإن على قائد الجيش الموالي لبرلمان طبرق مواجهة المدينة الأقوى سياسيا وعسكريا، وهي مصراته، التي تمكنت من تغذية ودعم الفصائل المعارضة له حتى في جنوب البلاد، بل وفي بنغازي، إذ يروج أن المدد العسكري ينطلق من مينائها باتجاه بنغازي لدعم مقاتلي "مجلس شورى بنغازي".
وتختلف معارضة مصراته لحفتر عن بقية المدن، فهي لا تقتصر على الجانب العسكري، بل تمتلك حضورا سياسيا فاعلا حتى في البرلمان، الذي يشكل الواجهة السياسية للواء المتقاعد، كما أن أبرز أعضاء المجلس الرئاسي الفاعلين ورئاسة المجلس الأعلى للدولة في قبضة رجالات المدينة.
وربما الحضور القوي لمصراته هو ما دفع حفتر إلى التوصل لتسوية، من خلال حكومة البرلمان مع رئيس حكومة الإنقاذ، خليفة الغويل، المنحدر من مصراته أيضا، إبان عودته لطرابلس في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، دون إغفال وعي الشارع في طرابلس بنتائج حرب حفتر في بنغازي، التي أتت على كل شيء في المدينة قبل سيطرته عليها.
داخليا، تعجّ العاصمة طرابلس بعشرات المجموعات المسلحة المعروفة بأن ولاءها يتغير بشكل سريع. ورغم كثرة الصدامات بين هذه المجموعات المسلحة، فهي تشترك في معارضتها لحكم حفتر العسكري.
وتمثل المليشيات في طرابلس كل أجزاء ليبيا، إذ تمتلك مناطق ليبيا الفاعلة تمثيلا عسكريا في العاصمة.
وبحسب مراقبين، يتوقع أن تنتقل الحرب من طرابلس إلى أغلب أجزاء البلاد، كما أن مناطق توزع هذه المليشيات في العاصمة تشكل عائقا أمام أي قوة عسكرية تنوي الدخول في صراعات معها، فأغلبها يمتلك تمركزات داخل الأحياء السكنية، وخصوصا في الفيلات والمباني الخاصة والعامة، وبالتالي فإن إدخال العاصمة، التي تضم ثلث سكان ليبيا، في حرب ستكون نتائجه سلبية.
ويبدو أن الجوار والدول الإقليمية على وعي كبير بخطورة إدخال طرابلس في حرب، إذ عارضت مالطا وإيطاليا، وانضمت كذلك الجزائر لمعسكر الرفض، والتي سارعت إلى المساهمة في "جهود السلام" بعد اقتراب جيش حفتر، المدعوم من مصر، قبل أشهر من قاعدة الجفرة وجنوب البلاد، وهي معارضات سيكون من شأنها الحد من طموح الجنرال المتقاعد للسيطرة على طرابلس.
أساليب حفتر للسيطرة على العاصمة
لكن في مقابل هذه العقبات التي تقف أمام تنفيذ تهديده باقتحام العاصمة، فإن حفتر لجأ إلى عدة أساليب بهدف السيطرة على طرابلس؛ إذ لجأ إلى استراتيجية إحلال الفوضى وتأجيج الغضب الداخلي، بالإضافة إلى خطوات على الصعيد السياسي، حيث تحكم في قرار مفاصل الدولة وهياكلها، بدءا من امتناع برلمان طبرق عن منح الثقة لحكومة الوفاق، قبل أن يصل إلى قراره الأخير، الأسبوع قبل الماضي، والقاضي بعدم اعترافه بالمجلس الرئاسي، كما سبقته قرارات أخرى أكثر خطورة، كإقالة محافظ البنك المركزي وتعيين آخر موالٍ له، ونقل مقره إلى البيضاء شرق البلاد، كما أن مؤسسة النفط يسيطر عليها البرلمان جزئيا، ولا سيما بعد نجاح حفتر في السيطرة على منطقة الهلال النفطي كاملا.
ولعل أبرز ما حققه حفتر في هذا السياق، كان إدخال العاصمة في فوضى النزاعات المسلحة، حتى استطاع تفكيك تحالف "فجر ليبيا" العسكري، الذي طالما أرّق مضجعه وحدّ من طموحه في السيطرة؛ فقد أقدمت مجموعات مسلحة في طرابلس على طرد مجموعات أخرى من مصراته من وسط العاصمة خلال الأسبوع الماضي.
ومن شأن هذه التطورات تفكيك بنية التكتل العسكري غرب البلاد، الذي طالما حافظ على تماسكه إبان عمليات "فجر ليبيا" في طرابلس والشرق في الهلال النفطي، وأخيرا "البنيان المرصوص" في سرت. كما أن حفتر نجح في خلق مناطق توتر جنوب وغرب العاصمة، وتحديدا في ورشفانة، لقطع طريق التواصل بين مجموعات طرابلس ومصراته مع حلفائها في الزاوية وغريان والأمازيغ أقصى غرب البلاد.
وبالنظر إلى تردي الأوضاع المعيشية في العاصمة، بسبب شح السيولة وارتفاع عدد ساعات انقطاع الكهرباء، وغلاء الأسعار، وارتفاع معدلات الجريمة والاختطاف والسطو المسلح، وعجز حكومة الوفاق عن مواجهة هذه المشاكل، تسود حالة الاحتقان التي تساهم في تهييء الأجواء للقبول بـ"شعارات حفتر" التي تتحدث عن بناء جيش وشرطة ومحاربة الإرهاب.