في معرضه اللندني، المستمر حتى العاشر من أيار/مايو المقبل، هناك أربع سلاسل من سنوات مختلفة: "سيسيل إليز سابيلا" (2008)، "في المنفى" (2008)، "تحوّل" (2012) و"38 يوماً من إعادة التجميع" (2014).
يقف المتفرج أمام أعمال سابيلا الفنية في غاليري "برلوني" كأنه أحد المارة، تختلس صور الشبابيك النظر إليه؛ بالفراغ والعزلة التي خلفها. يعبر من لوحة إلى أخرى، من شبّاك إلى آخر، ويقبل أن يكون هو أيضا مدعاة للعرض؛ ثمة من يتلصص من بناية مصفحة. أحياناً تكون النوافذ محاطة بمسننات، تمنع العين من الذهاب أبعد، أحياناً تقف النافذة خلف شباك زنزانة، أحياناً يقرّب، سابيلا، العدسة بقوة فتظهر شرائط الستائر المعدنية ضخمة وتغطي كل شيء. وربما تختفي تلك النوافذ المربعة في عمل آخر، هو صورة لجدار يرق مع طول تأملنا فيه، ونرى به سطحاً مائياً بلون العشب. الجدار نفسه نقترب منه أكثر في عمل آخر، يمكّننا الطلاء المقشّر من رؤية ثقوب الطوب والإسمنت في عمل أقرب، ما يكون لحفريات في الصورة.
المدينة التي تعيش فيها تلك النوافذ تبقي على سكانها منهمكين. وإلا كيف نفسّر ظهور طفلة واحدة في أحد الأعمال، تطل من النافذة وتتسلى على ما يبدو، بينما يغيب الراشدون تماما من حياة هذه الأمكنة. لماذا لا ينظرون هم أيضا؟ لماذا لا تلتقطهم عدسة سابيلا؟ لماذا يعتقد أنهم اختفوا؟ لماذا أخفاهم؟ الكبار في عالم الكبار، العمل، العزلة، المخاوف، الغياب، هذه كلها تصرفات ناضجة تسبب الاختفاء البارد والكآبة التي تفصلنا بالتدريج عن مدينة نحن أصلاً فيها غرباء، قادمون من أماكن أخرى، الطقس فيها مختلف وإيقاع الحياة وتفاصيلها وماضيها. تماماً مثلما ترك، سابيلا، حياته في القدس، وبدأها في مكان آخر مختلف حيث يقيم الآن في برلين.
في الطابق السفلي من المعرض، أعمال تجهيز متعلقة بالماضي، نفهم هذا من الصياغة الأرشيفية المهترئة للأشياء، ولأننا أيضا انتقلنا إلى داخل بيت كما يظهر في الصور. لدى هبوط الدرج، نهبط أيضا إلى لاوعي، سابيلا. هنا غرق الماضي، اختفى مثل "جزيرة أطلانتيس" تحت الحياة الجديدة، لكنه ما زال الماضي الساحر والمؤثر.
نلمح قصاصات ورق تشبه ورق الصحف، ندرك أنها صور ثم نعرف أنها مطبوعة على قشور من طلاء الجدران المتهالك في منازل مقدسية. كان قد أمضى في القدس "38 يوماً من إعادة التجميع"، كما هو عنوان السلسلة، وجمع بقايا الطلاء هذه. بعضها على شكل خرائط. نتعرف في واحدة على فلسطين، وفي أخرى نصف فلسطين. التفاصيل حميمة جداً: غرفة ضيوف في منزل شرقي، البلاط المزخرف والستائر، أواني المطبخ المعلقة، سلك الكهرباء المشبوك، كلها إشارات لبيت قديم ومأهول، على العكس تماماً من بنايات الطابق العلوي، التي لا نراها إلا من الخارج.
في أحد الأعمال، تمزج الصورة في الطلاء/خريطة فلسطين بين طائرة ورقية وأرجوحة. إننا حقاً نتمشى في لاوعي، سابيلا، وها هي طفولته تفلت شيئاً من تفاصيلها.
من طفولة سابيلا، ينقلنا المعرض إلى طفولة ابنته في سلسلة تحمل اسمها: "سيسيل إليز سابيلا". نلتقي في طابق آخر بحياة ملوّنة بقوة، تقودنا إليها خيوط صوف وردية وبنفسجية وحمراء ممتدة على الجدران، حتى نصل الى مجموعة من الصور. مقاطع مكبرة من فساتين وملابس طفلته، بنفسجية ووردية وحمراء وصفراء، منقوشة بالأزهار ومكتظة بالحياة. اختفى عالم الكبار الباهت مرة أخرى، وعادت الطفلة تحرك العالم مع حركتها.
وُصف سابيلا، من قبل بأنه محقق بصري، وكان وصفاً منصفاً بحق، فعمله المرتكز على التصوير والتجهيز الفوتوغرافي يتمتع بالبصر الشبيه بالبصيرة. يرينا باطن الأشياء والتفاصيل الخفية. وتصبح معه دقائق الأشياء مرئية بالعين المجردة. هذه هي المهمة التي كانت مستحيلة لولا الفن.