عادةً ما يحبّ سرد قصص قطعه الموسيقية، إذ نستمعُ إلى كلّ قطعة مرّتين؛ الأولى حين نصغي إلى العمل نفسه، والثانية حين يحكي لنا طارق الجندي (1983)، بكثيرٍ من الشغف، ما يقف خلف تأليف هذه المقطوعة أو تلك.
في ألبومه السابق، "ترحال" (2013)، كان المكان حاضراً في معظم القطع. وفي ألبومه الجديد، "صور"، ما يزال المكان يواصل حضوره، مع مراعاة فارق التوقيت. فبعد عامين على "ترحال"، لا بدّ أن نتلمّس ما هو جديد لدى الموسيقي الأردني ليقوله.
أوّل ما يلفتنا إلى هذه المسألة هو التوزيع الذي اعتمده الجندي في "صور"؛ عود، وبيانو (غدير عبيدو) وفلوت (آلاء تكروري) وإيقاع (ناصر سلامة) وتشيلّو (فادي حتّر) وباص غيتار (منذر جابر)، بخلاف عمله الأول الذي ارتكز فقط على العود والإيقاع، والباص أحياناً: "الموسيقي كالرّسام، يمزج أصواتاً مختلفة، ليحقّق تأثيراتٍ أكبر عليه وعلى المتلقّي"، يوضح الجندي في حديثه لـ"العربي الجديد".
لكن ألم يعد العود كافياً له؟ هل صار بحاجةٍ إلى ما يسنده؟ سألنا الجندي، ليجيب: "لا، هي ليست حاجة، بقدر ما إنها تنويع. إن صحّ التعبير، فأنا أنقسم إلى نصفين: عازف عود ومؤلّف موسيقي، ولكليهما متطلبات، إمّا من ناحية المهارة العزفية والحفاظ عليها وتطويرها، أو المهارة التأليفية التي تحتاج إلى معرفة باستخدام الآلات الموسيقية وكيفية إدخالها وكتابة موسيقى تلائمها".
في ثاني قطع الألبوم، "عمّان إدنبره وبالعكس"، نواجه الثيمة الأساسية التي تشغل الجندي، أي المكان. قطعة أدخل فيها صاحب "بينَ بين" عناصر موسيقية أسكتلندية، مازجاً إياها بالمقامات الشرقية.
يحدّثنا الجندي عنها: "كتبتها بعد عدّة زيارات للمدينة بين عامي 2010 و2014. أول ما أفعله حين أصل بلداً ما، هو تجربة مأكولاته الشعبية، وسماع موسيقاه. بعد الاطّلاع على هذه المدينة وتراثها وتاريخها، وجدتُ أنّي قادر على تأليف قطعة أستخدم فيها عناصر الموسيقى الأسكتلندية غير الرائجة في موسيقانا العربية، مثل الطبع الخامس من السلم الكبير (Mixolydian) وبعض الإيقاعات الراقصة التي ربطتها بمقاماتنا".
لم تمنع استعانة الجندي، في "عمّان إدنبره وبالعكس"، بعناصر موسيقية أسكتلندية، من العودة كذلك إلى القوالب الكلاسيكية في الموسيقى العربية، مثل السماعي؛ إذ نقع على اثنين في ألبومه، الأول بعنوان "سماعي عرب"، على مقام البياتي، والثاني بعنوان "عشق"، على مقام الكرد، واتّسم بمسحة صّوفية.
حول التأليف على هذا القالب، يقول الجندي: "السّماعي قالب بطيء وطربي. ورغم تراجع استخدام بعض القوالب البطيئة، مثل البشرف، إلا أن السماعي حافظ على وجوده، وعمل بعض المؤلّفين على تطويره. برأيي، من الضروري الارتكاز على بعض قوالب الموسيقى العربية، خصوصاً أنّها تحاكي ذوقنا من ناحية الجمل والإيقاعات".
إلى جانب استخدامه لهذا القالب، ارتكز الجندي في قطع أخرى، مثل "بترا" و"وسط البلد"، على جُمل من الفلكلور الشعبي الأردني والشآمي. برأي صاحب "يسار"، لا بدّ لأي عمل موسيقي أن يحاكي الخلفية الثقافية لدى المستمع؛ "لذا أستخدم هذا المخزون. أنا عربيّ، ومن بلاد الشام تحديداً، وبالتالي فعاداتي وثقافتي هي أكثر ما يمكنني أن أنهل منه، وأمارسه من دون تكلّف. لا يمكن أن أستورد جملاً موسيقية بهدف الاستيراد والإقحام، خصوصاً إن كانت لن تضيف شيئاً لي".
ويضيف: "أما بالنسبة للمُستمع الأجنبي، فهكذا هو يتعرّف إلى هويتي وموسيقى بلادنا، ليأخذ تصوّراً عن الموروث الموسيقي والمكان الذي جئت منه".
أعاد الجندي في عمله الجديد توزيع قطعة بعنوان "وسط البلد"، التي كانت إحدى مقطوعات ألبومه "ترحال". بعد إعادة توزيعها، نلاحظ أنّها تمتّعت بتلوين صوتي أكثر.
لماذا أعاد الجندي توزيعها؟ يجيب: "لأنّي أحبّها.. فهي تسرد مدى ارتباطي بهذه المدينة، مطاعمها القديمة، أكشاك الكتب هناك، آثارها. بمعنى آخر: عمّان الحقيقية، مش البلاستيك".
استوحى الجندي مقطوعة "مشاهد من تشرين 2012" مما عرف بـ"هبة تشرين" وما رافقها من احتجاج سياسي. مقطوعة لا تخفى رسالتها، خصوصاً أنّ السّير الدرامي فيها يبدو واضحاً، إلى جانب أن المرافقة اللحنية والهارموني بين الأصوات مأخوذ من تقنيات التأليف الحديثة. في نهايتها، يبدو اللحن مألوفاً للمستمع، ثم يتضّح، بشكلٍ تدريجي، أنّه موسيقى نشيد موطني.
أليس اللجوء إلى موسيقى هذا النشيد، مخاطرة؟ خصوصاً أنه طالما استُخدمَ من قبل موسيقيين، وهناك كثيرون أعادوا توزيعه وغناءه. يجيب الجندي: "لا شك أنّها مخاطرة، إلّا إني حاول أن أتجنّب إدخال موسيقى "موطني" بصورة مكرورة أو مألوفة، إذ وضعتها في المشهد الأخير من القطعة، وكان دخولها مفاجئاً، فهي جاءت بعد مارش عسكري ينفّذه التشيلو والإيقاع، ليعلوهم صوت الفلوت بموسيقى غاضبة ومقهورة؛ كما كان الناس في ذلك اليوم".