أثار اعلان مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي واغلاق مكاتبه الكثير من ردود الافعال، وفتح الباب على تساؤلات لمعرفة الاسباب الحقيقية التي دفعته إلى اتخاذ هذا القرار، وخصوصاً أن الانتخابات البرلمانية لا تبعد سوى أسابيع قليلة. اعتزال الصدر، وتأكيده انه لم يعد يمثل أي كيان سياسي، يعني انتحاراً سياسياً لكتلة "الاحرار"، التي تمثل التيار الصدري في البرلمان العراقي وتمتلك 40 مقعداً من أصل 325، اضافة الى ست حقائب وزارية. ومنذ اعلان الصدر الاعتزال، قرر نحو 20 عضواً من كتلة "الاحرار" الانسحاب من البرلمان تضامناً مع زعيمهم. فكتلة الاحرار تستمد قواتها وشعبيتها من الصدر واسم عائلته، وخصوصاً في الاوساط الشعبية الفقيرة.
يعزو بيان الصدر انسحابه الى "المحافظة على سمعة عائلة الصدر"، ويُفهم أن هنالك تهديداً يحاول النيل من سمعة آل الصدر. ولهذا عزا الكثير من المراقبين هذا الاعتزال الى استياء الصدر من "كتلة الاحرار" بسبب تسريبات عن تصويت بعض أعضائها على قانون التقاعد الموحد، الذي اثار استياء شعبياً ودينياً كبيراً في الآونة الاخيرة، تمثل بإصدار المرجع الاعلى للشيعة، علي السيستاني، تكليفاً شرعياً (فتوى) بعدم انتخاب الذين صوتوا على القانون ما لم يتعهدوا بسحب تصويتهم، وكذلك خروج الآلاف في تظاهرات عمت العاصمة بغداد ومحافظات اخرى في الوسط والجنوب. الاستياء ناجم أيضاً عن تورط بعض أعضاء الكتله في قضايا فساد كان آخرها قضية البسكويت الفاسد، التي ارتبطت بوكيل وزارة التربية، علي الابراهيمي، المنتمي الى الكتلة. ففسرت بعض التحليلات أن قرار الاعتزال كان بسبب شعور الصدر بانحسار شعبية ممثليه السياسيين، وكان يريد تلافي خسارتهم في الانتخابات المقبلة، وسط تكهنات بأن يكون القرار تكتيكاً سياسياً، وانه سيعود إلى العمل السياسي في الوقت المناسب.
ويرى البعض أن الصدر، المعروف بعفويته وانفعاله السريع، يتخذ قرارات ويتراجع عنها بعد فترة قصيرة، وقد يكون اعتزاله هذه المرة كسابقاته. وكان الصدر قد أعلن اعتزاله قبل أشهر قليلة، ثم تراجع نزولا عند طلب البعض. وفي حينها ـ كان يبدو القرار غير جدي، لأنه لم يلق صدى كبيراً، وربما لم يأت في وقت حرج، كالذي يمر به العراق الآن. وهناك قرارات أخرى تراجع عنها الصدر أيضاً، على غرار أمره بتجميد نشاط جيش المهدي في آب/أغسطس 2007 لمدة ستة أشهر، بسبب خروج جيش المهدي منهمكاً من معاركه مع ميليشيات شيعية اخرى في كربلاء. ومع ذلك لم يتوقف نشاط هذا الجيش، وأعلن عن تجميده مرة اخرى لأجَل غير مسمى في آب/أغسطس 2008 بعدما دحره نوري المالكي في حملته العسكرية التي أطلق عليها "صولة الفرسان".
كما أن تزايد عمليات الاستهداف الطائفي، التي تقوم بها ميليشيات شيعية ضد المكون السني في الأشهر الاخيرة، مثل انتشار الجثث المقطوعة الرؤوس واستهداف مساجد وعمليات تهجير قسرية، ربما اقلقت الصدر، فخشى ان يكون جيش المهدي متورطاً فيها. فلطالما صرح الصدر بأنه يريد أن ينظف جيش المهدي من عناصر "منفلتة" فيه. ولا يخفى وجود تنظيمات منفصلة عن جيش المهدي ولكنها تنسب نفسها اليه وتتخذ اسمه، وهذا ما كشفه الصدر عند الاعلان الأول لتجميد نشاط جيش المهدي واعلان تشكيل "لواء اليوم الموعود" بدلاً منه. كما صرح الصدر أخيراً بأنه أمر بإعادة هيكلية جيش المهدي في العاصمة بغداد وضواحيها، وذلك حتى "لا يستغل اسم وعنوان هذا الجيش من قبل أفراده أو من قبل مبغضيه والمنشقين عنه".
رغبة الصدر في التركيز على الشؤون الدينية، وطموحه لأن يصبح مرجعاً دينياً وقيادة حوزة النجف، قد تكون من الأسباب التي دفعته إلى الاعتزال، بحسب تفسيرات البعض. ورغم ان هذا الاحتمال وارد فإن تطبيقه صعب على ارض الواقع، وخصوصا مع وجود مراجع كبار في النجف قضوا سنين طويلة في البحوث الفقهية ليصلوا إلى ما وصلوا إليه من المكانة العالية. أما الصدر، كما هو معروف، فلا يزال في بداية حياته الدينية، وفي العتبة الاولى في سلم الوصول الى زعامة المرجعية في النجف.
وتبقى الضغوط الايرانية هي اقوى الأسباب التي دفعت الصدر الى اعلان اعتزاله، وخصوصاً في ظل رغبة ايران في حصول المالكي على ولاية ثالثة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، مع إدراكها أن الصدريين هم اقوى منافسي كتلة "ائتلاف دولة القانون"، التي يتزعمها المالكي. اضافة الى ذلك، بدأ الصدر يتعاطف مع الكتل المنافسة للكتل الشيعية، أي الكتل السنية والكردستانية، وهذا ما تعتبر إيران أنه يحدث شقاً في وحدة الصف الشيعي، كما صرح الصدر بذلك في اكثر من مرة. وكان الصدر قد كشف عن وجود ضغوط ايرانية تمارس عليه في اكثر من مرة، ومنها في مذكراته عن "الهدف من زيارة اربيل"، التي نشرها في 5 اغسطس/آب 2012. إذ كشف عن أن قائد الحرس الثوري الايراني، قاسم سليماني، هو الرجل الاقوى في العراق. ولا يخفى الدور الذي لعبته ايران في حصول المالكي على ولاية ثانية في 2010، وكان الصدر وقتها رافضاً بشدة ترشيحه، واستمر في رفضه لشهور، وكذلك دورها في فشل اتفاق الكتل المنافسة للمالكي، ومنها "كتلة الاحرار"، على سحب الثقة من رئيس الحكومة، والتي توجت بما يعرف بـ"اتفاقية اربيل" في ابريل/نيسان 2012. ويرى البعض ان ضغوط ايران على الصدر كانت السبب الذي دفعه الى ترك ايران والاقامة في لبنان.
ويبدو أن ايران قد زادت من ضغوطها على كل الكتل الشيعية المنافسة للمالكي، ومنها "المجلس الاعلى" الذي يتزعمه عمار الحكيم. وهذا ما يفسر التصريح المفاجئ للقيادي في المجلس الاعلى، همام حمودي، في 14 شباط/فبراير الحالي، اذ قال إن علاقة كتلته البرلمانية، "كتلة المواطن"، مع ائتلاف المالكي "في افضل ما تكون وإن المنافسات الانتخابية لن تربك المشتركات بين الائتلافين". أكد "أن المالكي شخصية سياسية حازمة ويعدّ رجل المرحلة، وأثبت حضوراً فاعلًا في إدارة الأزمات وحلها خلال الدورتين الماضيتين". وكانت علاقة المجلس الاعلى مع ائتلاف المالكي يشوبها الكثير من التوتر والتنافس وتبادل الاتهامات، وكانت "كتلة المواطن" قد اعلنت وقوفها ضد انتخاب المالكي لولاية ثالثة.
ويرى مراقبون أن الاستراتيجية الايرانية في العراق تعتمد على وجود كتلة شيعية قوية وموحدة تتمكن من القبض على السلطة بيد قوية وتتميز بعلاقات مميزة مع ايران. ويبدو أن ايران وجدت في المالكي ما تصبو اليه، ما دفعها الى اجبار الصدر على إخلاء الساحة له، ليكون المالكي المستفيد الوحيد من اعتزال الصدر.
لكنّ السؤال الأهم هو هل سيتراجع الصدر عن قراره، وخصوصاً أن الكثير من الاطراف السياسية (ما عدا كتلة المالكي) والشعبية ناشدته التراجع، على اعتبار أن قراره سيخلّ بميزان القوى في العراق.