ضريح سيدي عبد الرحمن

01 مارس 2016
مقام حارس الجزائر العاصمة (إسماعيل مالكي)
+ الخط -

لا تكاد تخلو منطقة جزائرية، خصوصاً في الجهتين الغربية والجنوبية، من ضريح لوليّ صالح، يعود إليه نسب تلك المنطقة عادة، ويُقرن اسمه بكلمة "سيدي". ويُزار ضريحه الذي يحظى بتبجيل خاص، على مدار الأسبوع، لفض النزاعات ولممارسة طقوس تهدف إلى إبعاد الشرور وجلب البركات. كذلك، يُنظَّم احتفال سنوي خاص به يسمّى "الوعدة"، توزّع فيه الأطعمة وتتخلله ألعاب فروسية، تحت إشراف مؤسسة الزاوية التابعة لصاحب الضريح.

في الجزائر، آلاف الزوايا التي تنتمي إلى طرق صوفية، بعضها محلي وبعضها ذو امتداد عالمي. وثمّة طرق مشيختها العامة داخل البلاد، ويتبعها الملايين في القارات الخمس، مثل الطريقة التيجانية في منطقة عين ماضي عند مداخل الصحراء، وينتسب إليها ما لا يقل عن مائتي مليون مسلم سني في العالم، بحسب ما يفيد الخبير الدولي في علم التصوف محمد بن بريكة. وعلى الرغم ممّا عرفته البلاد في العقود الثلاثة الأخيرة من إسلام سياسي، وآخر جهادي يرى في مثل هذه الطقوس بدعاً خارجة عن الشرع، إلا أن هذه الأضرحة لم تفقد كثيراً من ألقها وسلطتها على الجزائريين، بما في ذلك الأجيال الجديدة.

وهذا الارتباط بالنسبة إلى أستاذ علم الاجتماع في جامعة مستغانم مهدي بلحميتي، "ينبع من تبجيل الجزائريين للأنساب الشريفة التي تنتهي إلى بيت النبوّة، أو إلى أحد الصحابة الكبار. وقد لعب هذا التبجيل دوراً في ابتكار مفاهيم جديدة لم تعرفها الأنساق والبنى الاجتماعية، إلا بمقدم هذه الأسر إلى بلاد المغرب في خلق تراتبات اجتماعية أنتجت نخبوية دينية تقليدية مقارنة بالأنماط الحديثة". يضيف لـ"العربي الجديد"، أن "فضاء المقدس المتمثل في الضريح أو الزاوية هو فضاء اجتماعي خصب للدراسة، إذ يتوافد أحفاد الولي والتابعون له والمؤمنون بمكانته وبركاته، مقدّمين ولاءهم للمقدس الجمعي من خلال إقامة الوعدة وتقديم الهدايا للمقدم الذي يكون عادة من سلالة هذا الوليّ".

اقرأ أيضاً: فوضى الإفتاء في الجزائر

كانت لـ"العربي الجديد" زيارة لضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي، المعروف بحارس الجزائر العاصمة، في يوم جمعة، الذي يُعدّ أكثر الأيام إقبالاً من "أهل الزيارة" على اختلاف أعمارهم وجهاتهم ومستوياتهم الثقافية. وصلنا في الساعة التاسعة صباحاً، من جهة قصبة الجزائر التي تمثل النواة الأولى للمدينة، ويكاد ميلادها أن يكون متزامناً مع ميلاد صاحب الضريح (عام 1384)، لكن الباب كان مقفلاً. طلبت إحدى المتسولات اللواتي يستهدفن زوار الضريح منا "بركة"، فتداعت علينا المتسولات الأخريات. سألنا عن سبب كونهن جميعاً متقدمات في السن، فأجاب من فتح الباب: "هنّ قديمات هنا، ولا يسمحن عادة لغيرهن بمشاركتهن الفرص".

ما إن فُتح الباب، حتى بدأ الزوار يتدافعون. تعلّق امرأة مسنة: "سيدي عبد الرحمن لن يهرب من مكانه". والزائرون شيوخ وعجائز ونساء يحملن أطفالهن وصبايا يحملن أكياساً تحوي فطائر وحلويات وفواكه، قمن بتوزيعها على كل من صادفنه في الضريح. وكانت الحصة الأكبر لكهل معوّق تمركز في زاوية يمرّ بها الجميع. يقول: "هنا مكاني منذ أعوام. يكفي أن أجلس فيه حتى يأتيني رزقي ورزق أطفالي. ينتظرونني بعد العصر ليأكلوا".

ينتهي الباب الخارجي إلى سلّم حجري ينحدر إلى قبة الضريح، وإلى جانبه مقر مؤسسة تسيير المقابر والجنائز، ومقبرة صغيرة تضم قبور أحفاد الثعالبي وبعض أشراف المدينة، وسط أشجار العرعر التي تسكنها أصناف من الطيور. يلتزم الجميع بخلع أحذيتهم عند مدخل الضريح أو المقام، والتوجه يميناً إلى دهليز مخصص لإشعال الشموع. بعضهم يجلبها معه، والبعض ينتظر من يتبرع له بشمعة. تتصاعد الأدعية عارية من أي تحفظ، حتى أنه يمكنك أن تعرف الناس من خلال أدعيتهم. النساء أكثر الوافدين الذين يرفعون أصواتهم، ومما التقطناه أدعية تتعلق بسجين أو مظلوم أو عاقر أو بطال أو مسافر أو مصير أو مستقبل البلاد.

يصيح الشيخ منصور، الوافد من مدينة الأغواط (على بعد 400 كيلومتر)، بحثاً عن صور لمخطوطات الثعالبي، خصوصاً كتابه "جامع الأمهات في أحكام العبادات"، طالباً من النسوة أن يتوجهن بالدعاء إلى الله مباشرة لا إلى صاحب الضريح. فوافقه شباب كانوا مشغولين بهواتفهم المتطورة لتصوير اللحظة أو تسجيلها.

يدخل كهلان يتعاونان على قصعة من الكسكسي ولحم الدجاج، ويضعانها فوق مصطبة إلى جانب الدهليز، قبل أن يدعوا لأمهما التي رحلت قبل أربعين يوماً. تقول الحاجة حدّة: "كل طعام يدخل هنا يصبح منسوباً لسيدي عبد الرحمن، فيه البركة والشفاء. هل تعرفون لماذا لا أمرض، على الرغم من أنني أقترب من عقدي التاسع؟ لأنني آتي إلى هنا يومياً، أملأ صحني من هذا الطعام، وآكله في بيتي مع من حضر من أولادي وأحفادي".

اقرأ أيضاً: مهر الجزائر.. "الهنا يسبق الغنى"

عند المدخل المؤدي مباشرة إلى القبر، يجلس الشيخ الزبير، القيّم على المكان، مشغولاً بتقطيع كومة قماش خضراء كبيرة، إلى أشرطة صغيرة تُهدى للزوار حتى يعلقوها في بيوتهم أو رقابهم للحصول على البركة. طلب منا قراءة الفاتحة على روح الشيخ، ثم العودة لأخذ إحداها. المكان مكتظ بالزوار والبخور والصلوات، الجهة اليمنى منه للرجال واليسرى للنساء. ومن حين إلى آخر، تدخل إحداهن الفضاء الرجالي لتوزّع الحلوى أو تضع العطر على الأيدي. يقول إسماعيل ك. العامل في الحديقة المجاورة للضريح: "عادة ما تكون واضعات العطور على الأيدي، من العوانس اللواتي يبحثن عن عريس. وهنّ يفعلن ذلك إما للإشارة إلى عزوبيتهن، فينلن ربما إعجاب أحدهم، وإما جلباً للدعاء الصالح حتى يتزوجن". يضيف: "كنت شاهداً على أكثر من زواج هنا، والناس يعتقدون أن الشيخ نفسه تولى تزويجهم، بالتالي سوف يكون زواجاً مباركاً وبعيداً عن دواعي الطلاق. هل ترى تلك الحاجة التي تتوسط النساء؟ إنها واحدة من الساعيات في هذا الباب، وكثيراً ما تكون الوسيطة بين الأمهات الباحثات عن زوجات لأبنائهن وهؤلاء الباحثات عن أزواج لبناتهن".

وهي تتلو دعوات للجميع، تخبر الحاجة أنها تشعر بأنها أم للكل، وأنها لا تستطيع أن تحصي عدد الزيجات التي كانت سبباً فيها، حتى أنها تتلقى الهدايا من أزواج ارتبطوا على يديها منذ عقود من الزمن. تضيف: "ليس هناك أفضل من أن تكون سبباً في نشوء أسرة، وقد قلت لحفيدي إنني سوف أزوجه من هنا. أن يرتبط بفتاة زارت هذا المكان الطاهر ودعت ربها أن يرزقها زوجاً صالحاً، خير له من الارتباط بفتاة عرفها في أماكن مشبوهة".

ويلفت القيّم على الضريح إلى أن حالات كثيرة شفيت بسبب الرقية الشرعية التي تلقتها في الضريح، وبسبب الحالة النفسية المريحة التي تخلقها زيارة المكان وكذلك الدعاء داخله. يقول: "أجمعَ صالحون كثر على أن الدعاء في حضرة سيدي عبد الرحمن مستجاب، وعلى أن الخصومات فيه تحلّ بيسر. هنا أنهينا عشرات الخصومات، بما فيها تلك التي عجز الأعيان والمحاكم عن حلها".

اقرأ أيضاً: جسور قسنطينة مشانق معلّقة
دلالات