صيف ساخن في أوروبا... هكذا يقول بوتين

19 يونيو 2015
بوتين في معرض "الجيش 2015" (ديمتري أزاروف/Getty)
+ الخط -
أمور كثيرة حصلت وقيلت في الأشهر الـ16 الأخيرة في أوكرانيا، والصدام الذي أوقع أكثر من ستة آلاف قتيل حتى الآن، في منطقة دونباس (إقليمي لوغانسك ودونيتسك)، على الحدود مع روسيا، بات مفتوحاً على مسار تصعيدي أكثر حدّة، خصوصاً أن التساؤلات المطروحة باتت أكثر جرأة عما كانت عليه في فبراير/شباط 2014. لم يعد السؤال "هل سيتدخّل الجيش الروسي في أوكرانيا رسمياً"؟ بل بات "متى يتدخّل الجيش الروسي في أوكرانيا رسمياً"؟

يُمكن اعتبار يوم الثلاثاء، يوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كونه استغلّ افتتاح منتدى "الجيش 2015"، ليُعلن مواقف "عسكريتارية"، منها "أن روسيا ستعزز ترسانتها النووية بنشر أكثر من 40 صاروخاً جديداً عابراً للقارات بحلول نهاية العام". وأوضح أن "الصواريخ ستكون قادرة على مقاومة أنظمة الدفاعات الجوية الأكثر تطوراً". تهديد بوتين نهار الثلاثاء، عزّزه ليلاً بإشارته إلى أن "روسيا ستدافع عن نفسها في حال كانت مهددة، والحلف الأطلسي بات على حدودنا". لم تعد مسألة تحليق الطائرات الروسية في الأجواء السويدية والدنماركية وغيرها مجرّد "صِدَف" متراكمة، بل شكّلت محاولات استباقية لتعميم حالة الرعب من بحر البلطيق وصولاً إلى شواطئ انجلترا مروراً باسكندنافيا.

بدأ كل شيء حين سعى بوتين إلى ترسيخ مفهوم "روسيا الأم" وذلك على خلفية انتصاره العسكري كرئيس للوزراء في حرب الشيشان الثانية (1999)، في استعادة لروحية الاتحاد السوفييتي، ببعدٍ قومي لم تعتده روسيا. ولم تكن حرب جورجيا (2008) سوى "نزهة" صغيرة أمام غنيمة أكبر اسمها أوكرانيا. وعلى خلفية الأحداث المتسارعة لدى "رأس الاتحاد السوفييتي" كما أسماها جوزيف ستالين، ضمّ بوتين شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وخصّص حيّزاً كبيراً لذلك في خطاب "يوم النصر" الـ69 الحماسي في 9 مايو/أيار في العام 2014، حتى إنه انتقل إلى القرم تكريساً لأهمية المكان بالنسبة إليه، وسط تلويح رجالاته العسكريين بنشر أسلحة نووية فيها، للسيطرة على ممرات البحر الأسود، وخلفهم أنابيب الغاز.

اتّسم خطاب "يوم النصر" في حينه بـ"مسيحانية" زائدة، مع اعلان الرئيس الروسي أن سيفاستوبول، عاصمة القرم، عبّدت الطريق أمام "روسيا الأرثوذكسية". بعد "يوم النصر" 2014، تهاوت أسعار الطاقة عالمياً، وتأثرت روسيا بذلك. حاول بوتين الظهور بمظهر "مُستَوعِب" الأحداث، طالباً من الشعب الروسي "الكفاح معه لعامين حتى تعبر الأزمة". لم ينسَ إطلاق خطوط الغاز الجديدة في الصين وتركيا، آملاً في تمرير مشروع "السيل الجنوبي"، عبر البحر الأسود وتركيا والبلقان ليصل إلى مصانع أوروبا الغربية. غير أنه بعد اغتيال المعارض بوريس نيمتسوف أواخر فبراير/شباط الماضي، أخذت الأوضاع تتدهور في الشرق الأوكراني. وبات ميناء ماريوبول ساحة متقدمة للصراع، على غرار معارك دونيتسك ومطارها.

اقرأ أيضاً: أوكرانيا تتحدى طموحات روسيا عبر أوديسا

ارتفعت الأصوات المنددة ببوتين وجيشه، مع تداول تقرير "بوتين. الحرب" في الربيع، الذي كشف عن سقوط قتلى من الجيش الروسي في أوكرانيا، من دون إعلام أهلهم بذلك. اختار بوتين "الهروب إلى الأمام" كردّ فعلٍ على ما يجري. لم يتأخر في استعراض قواه العسكرية على الحدود مع أوكرانيا في منطقة روستوف، مرات عدة. بدا وكأنه يعمل في إطار "أجندة معيّنة". وفي الذكرى الـ70 لـ"يوم النصر" في 9 مايو الماضي، أراد بوتين توجيه الأنظار إلى عاملين في غاية الأهمية: العامل الأول، حلفاؤه، الذين يعوّل عليهم في "الاتحاد الأوراسي"، وفي الشرق الآسيوي وجنوب شرق آسيا. كان حضور دول مثل الصين والهند وكازاخستان وروسيا البيضاء وغيرهم، احتفال الساحة الحمراء في موسكو، بمثابة "فخر" جيو ـ سياسي لبوتين. عوّل عليه لرفع نبرته العسكرية من جهة، وتحييد الأميركيين من جهة ثانية، بعد زيارة وزير خارجية واشنطن، جون كيري، منتجع سوتشي، بعد أيام من "يوم النصر".

أما العامل الثاني الذي حاول إظهاره في "يوم النصر"، فهو ضخامة العرض العسكري والأسلحة الجديدة التي تمّ إخراجها إلى العلن، وسط اطمئنان بوتين إلى مبيعات الأسلحة الروسية في العالم، واعتبار أن "سوقها مستقرّ". في أدبيات العسكر، لا يُمكن استعراض الجديد في العدة والعتاد ما لم تكن تنوي استخدامها، ولو في نطاقٍ ضيّق. بالتالي يُمكن فهم تهديد بوتين بصورة أوضح، قياساً على تطوّر الاستعراضات العسكرية الروسية طيلة عهده. يوحي بوتين بتهديده الأخير أنه ينوي توجيه ضربة محدودة في أوكرانيا، معوّلاً على ثقته بغياب أي ردّ فعل أميركي "جدّي"، وأن أوروبا لن تُقدم على أي ردّ فعل عسكري. الضربة المحدودة بالنسبة إلى بوتين حاجة ضرورية، لإنهاء أي توسّع اضافي للأطلسي على حدوده، ولتعميق القدرة القومية الروسية أيضاً، وقطف ثمارها في مختلف أرجاء الجمهوريات السوفييتية السابقة. ومحدودية الضربة لجيش أوكراني مُنهك، لا يتخطّى عدده ربع مليون جندي عامل، قضية في غاية الأهمية لبوتين، الساعي إلى تطويع أوروبا لا تدميرها، ورسم خطوط حمر جديدة.

تلك الخطوط تشمل الدرع الصاروخي، الذي يصفه بوتين بأنه "أكثر خطراً علينا من تصريحات الأطلسي بشأن نشر الأسلحة في شرق أوروبا". الدرع الذي يؤرق الكرملين، غير المُقتنع أساساً بأنه موجّه ضد ايران، خصوصاً أن الأميركيين رفضوا نصبه في العاصمة الأذرية باكو، وباتوا على مشارف الاتفاق النووي مع الايرانيين. ومع أنه عمل على محاولة الإبقاء على ايران "حليفاً اقليمياً" لا بديل عنه، عبر تسهيل صفقة صواريخ "أس 300"، إلا أن كلام الرئيس الإيراني حسن روحاني الأخير حول العقوبات وتأثيرها على الشعب الإيراني، لا يُطمئن الرئيس الروسي، بل يؤكد أن طهران لن تألو جهداً في إتمام الاتفاق، ليبقى الدرع الصاروخي موجّهاً إلى روسيا.

ومن الخطوط التي يسعى الرئيس الروسي إلى رسمها، تأكيده مبدأ "حماية الأقليات الروسية" في أوروبا، لذلك وجد في تعيين غريمه الرئيس الجورجي السابق ميخائيل ساكاشفيلي، والياً على منطقة أوديسا الأوكرانية، بمثابة تحدٍّ يهدف إلى استيلاد بؤرة أمنية هناك تشمل "جمهورية ترانسنيستريا" المولدافية المُعلنة من جانب واحد، والتي تضمّ أقلية روسية في مولدافيا على تخوم أوكرانيا، للضغط على موسكو، واخضاعها في دونباس. وفي حال قرر بوتين الهجوم العسكري، فسيكون ذلك في فصل الصيف الحالي، كما اعتاد في الشيشان وداغستان وجورجيا، فالشتاء الروسي صُنع للمدافعين في العرف العسكري لا المهاجمين.

اقرأ أيضاً: القرم تحفّز أخواتها الثماني في شرق أوكرانيا... وغربها
المساهمون