صيف السخط اللبناني.. كشف رائحة الاحتراب الطائفي

05 سبتمبر 2015
مشكلة النفايات فجّرت الحراك اللبناني في بيروت (Getty)
+ الخط -
في شتاء عامي 1978 ـ 1979، شلّت الإضرابات العمالية مدينة لندن. تحوّلت عاصمة الإمبراطوية التي لم تكن تغرب عنها الشمس إلى مكبِّ نفايات كبير. صارت مدينة مشلولة. تسيِّر أمورها بالحد الأدنى من النقل والبريد وعمال النظافة ومصانع الأغذية والطبابة وموزعي الحليب. أي بكل ما يجعل المدينة الحديثة تقوم على قدميها. لم يَسِم الذاكرة البريطانية الحديثة حدث كهذا من قبل. هناك من شبّهه بإضرابات سابقة حدثت في منتصف عشرينات القرن الماضي. لكن الفارق بين الحدثين هو في تضاعف عدد سكان المدينة، تزايد الاستهلاك، الاعتماد أكثر وأكثر على خدمات قطاعات عديدة لـ"تشغيل" آلة الحياة في عاصمة كبيرة مثل لندن

كُتب الكثير عن "شتاء السخط" الذي تمرّدت فيه نقابات العمال البريطانية على حزبها الحاكم (حزب العمال) برئاسة جيمس كالهان، وكيف أصبح ذلك الشتاء البارد، الذي لم تعرف بريطانيا برودته منذ ستة عشر عاماً، مفصلاً في الحياة السياسية البريطانية. ففي ظل الفوضى العارمة التي اجتاحت البلاد، برزت القيادة الكارزمية المحافظة لمارغريت ثاتشر، التي انقضَّت على حزب العمال المترنح، بفعل ضربات قاعدته الانتخابية والاجتماعية، وأجلسته، طويلاً، في مقاعد المعارضة بمجلس العموم. لم تقصِ ثاتشر غريمها السياسي والفكري عن السلطة فقط، بل غيَّرت قواعد اللعبة السياسية البريطانية إلى أمد طويل.

من عاشوا تلك الفترة، وهم اليوم في منتصف أعمارهم، لن ينسوا أبداً تلال الأكياس السوداء التي تكدّست في شوارع لندن وميادينها ذات النفحة الإمبراطورية. بإضراب عمال النظافة تكشَّفت هشاشة الحضارة. تبيَّن، على نحو يزكم الأنوف، أن الفارق بين التحضّر والبربرية شاحنة تنقل النفايات مرتين في الأسبوع. بين الصحة/ القرن العشرين والأوبئة/ العصور الوسطى، رجال يرتدون زيّاً موحّداً ويجمعون مخلّفات الاجتماع الإنساني في أكياس سوداء ويوارونها الثرى، كما توارى الجثث.

صور قروسطية

هذا ما فكَّر فيه الكاتب الإيطالي الكبير ايتالو كالفينو عندما تأمّل "طقس" إخرج القمامة من حاوية المطبخ إلى حاوية الشارع ومنها إلى عربات، يشبّهها بقارب خارون الذي ينقل الموتى من الحياة الدنيا إلى الآخرة، حيث تقوم هذه الأخيرة بإبعادها عن أنظارنا، بل وسائر حواسنا الأخرى، إلى "مثواها الأخير".

يقول كالفينو، عمّا أشرت إليه آنفاً، ولكن من دون أن يقصد "شتاء السخط" بذاته، إنّ "كل ما يلزم عمال النظافة الإضراب، بضعة أيام، تاركين القمامة تتراكم أمام أبوابنا، لكي تتحوّل المدينة إلى كومة روث عفنة، فنختنق، في أسرع ممّا يمكن أن يتنبأ به المرء، بسبب إنتاجنا المتواصل للنفايات. ولسوف نتبيّن أن الوقاية التكنولوجية لحضارتنا ليست سوى قشرة هشّة، فنصير حيال صور قروسطية من التفسّخ والوباء".

أليس هذا ما نراه عندما يتوقف، لسبب ما، جمع النفايات من الأماكن المخصصة لها؟ آخر مثال على ذلك ما يحدث، الآن، في لبنان. والتناقض في هذه الحالة فاقع. تتحدث السردية اللبنانية المعاصرة عن تحضّر يميّز هذا البلد الصغير عن محيطه وتُصنَع له شخصية وهوية فيهما قدر كبير من التفوّق الاستيهامي، فيما هو غير قادر، في الواقع، على جمع نفايات استهلاكه "الحضاري" من الشوارع!

كان ينبغي أن تتراكم نفايات الاستهلاك اللبناني أمام البيوت لكي ينزل الناس إلى الشارع، ولكي يدركوا، وهذا أهم، أن التحضّر الحقيقي هو في القدرة على جمع النفايات وطمرها على نحو لا تتحوّل فيه المشكلة من شكل إلى آخر. يعني، ليس مجرد مواراتها عن الأنظار، ولا في نقلها من العاصمة إلى الأطراف، بل التأكد من أنها لن تشكل خطراً على البيئة، التي ستشكل خطراً، بدورها، على الإنسان.

النفايات والطوائف

لكن لم ينزل كل الناس، بالطبع، إلى ميادين بيروت المشهودة على هذا الصعيد. وليس هذا مطلوباً. كانت تكفي تلك الآلاف من الحناجر الهادرة، التي دخلت في عراك مع الآلة الحاكمة عسكراً، بوليساً وسياسة، لكي يهتز البلد، ويكون أمام وضع لم يتهيّأ له. فقد تكون تلك الآلاف التي استجابت لحملة "طلعت ريحتكم"، وبعض القوى الشبابية الأخرى المعنية بالشأن البيئي، أو المنادية، كمن يؤذن في مالطا، بالتخلّص من النظام الطائفي، أول تحرّك شبابي لا يوجّهه زعيم طائفة، ويحظى بالتعاطف الشعبي اللبناني والعربي.

تمكنت النفايات (لنقل الزبالة لأنها ذات وقع أشد رائحة)، من صنع رأي عام فوق طائفي، أو عابر للطوائف، وبدا أن هذا سيتوسّع، ويتجاوز الترسيمات الطائفية والمناطقية الحالية. والأمر لا يزال ممكناً. كثيرون قالوا إن هذه الفرصة ينبغي ألا تفلت قبل أن تهزَّ عرش أمراء الطوائف. هذا ما جعل فنانين وكتّاباً وصحافيين ورجال قانون يرمون ثقلهم في الحراك، ويحرصون على إظهار هذا الحضور المؤثر في الجمهور. مقياس لا طائفية هذا الحراك، بل واحتقاره للمحاصصة الطائفية ورفضه للنخبة السياسية القائمة، هو الرعدة التي سرت في ظهور أمراء الطوائف.

فمن غرائب الأمور أن يتّفق الذين لا يتفقون، أبداً، في لبنان على الموقف المتشكّك حيال شبان "طلعت ريحتكم"، بداية، ثم على اعتبار ما يقومون به "مؤامرة" للإطاحة بالدولة، على ما هو موقفهم الآن. وهذا الموقف يشمل: زعماء السنّة والشيعة والدروز والموارنة، بتسمياتهم المختلفة، والأرمن! حتى وسائل الإعلام اللبنانية التي رافقت التظاهرات الأولى بحماسة راحت تفتش في "إضبارات" قادة التحركات المطلبية، عابرة الأحزاب، عابرة الطائفية والجهوية، وتحاول أن تلحقهم بـ"السفارات"، رغم أن لكل زعيم طائفة في لبنان، منذ أيام القناصل، سفارته. لكنهم عندما يتحدثون عن "السفارات"، في هذا الخصوص، فهم يتحدثون، بالطبع، عن سفارات غيرهم.


حمى الاستهلاك

ناقش شبان التحرك، ومن ساندهم من بيئيين وقانونيين، أرقاماً يصعب أن تكون ذات طابع طائفي أو تآمري. الأرقام موضوعية على ما نعرف. ولم يكن هناك تسييس لها. فما "التآمر" في القول إن لبنان ينتج بين أربعة وسبعة آلاف طن من النفايات يومياً، أي أعلى بكثير من المعدل العالمي لإنتاج النفايات قياساً بعدد السكان؟ ما الطائفي، أو التآمري، في القول إن 40 في المئة من النفايات الصلبة تُرمى في مكبَّات عشوائية، وإن 50 في المئة تطمر في مطامر (انفجرت بما طُمِرَ فيها)، وأن نحو 10 في المئة من النفايات يتم تدويرها؟

ليس هناك تآمر في هذه الأرقام التي يقرُّ بها الجميع، ولكنَّ فيها بعداً طبقياً، خصوصاً عندما نعلم أن نحو ثلاثة إلى أربعة آلاف طن من النفايات تنتجها بيروت ومنطقة جبل لبنان. فهنا يتركز الاستهلاك الزائد عن الحدّ، وبالتالي إنتاج النفايات. هذه هي المناطق التي تتركز فيها الطبقة الوسطى والبورجوازية اللبنانية، فيما يقل إنتاج النفايات في المناطق الأفقر: الجنوب، البقاع، طرابلس وجوارها، وهي الخزان البشري لبعض أمراء الطوائف، أي مجرد حطب في آتون صراعاتهم.

ليست مشكلة النفايات في لبنان في عدم القدرة على جمعها وطمرها، بل في عدم اتفاق أمراء الطوائف على من يقوم بذلك؟ قد يكون هذا هو السبب الذي جعل ملف النفايات بنداً طارئاً على جدول أعمال الحكومات اللبنانية من عام 1998 حتى الآن.

اقرأ أيضاً: الفنانون والثورات: مصر وسورية ولبنان والتطابق الكامل
المساهمون