صيام من دون هلال

14 يونيو 2016
+ الخط -
في وسعي أن أتفهم هذا الهوس العربي المصاحب لقدوم "رمضان"؛ وأن أعذر العرب، في هذيانهم الجماعي، وهم ينتشرون قبل أيام من ظهور الهلال النحيل، في الأسواق؛ لإعداد مؤونة المعركة.
أتفهم ذلك، لأن رمضان بالنسبة للعرب شهر واضح المواقيت، والشروط، والنصر فيه مؤكّد، شريطة الالتزام بالامتناع عن الطعام والشراب، ومن ثم تندلع الاحتفالات الليلية بالنصر، بدءاً بقذيفة المدفع العثماني الذي ظلّ يستخدم حتى وقت قريب، وليس انتهاءً بإطلاق الألعاب النارية، ابتهاجاً بالفتح المبين، والسهر إلى مطلع الفجر، تمهيداً لاستئناف المعركة مجدّداً في اليوم التالي.
قلت أتفهم ذلك، لأنني أشعر أن هذا الهوس الجماعي بصيام رمضان يأتي شكلاً من أشكال العزاء الذاتي، عن صيامٍ عربيٍّ مرادفٍ لا إفطار فيه، صيام طال أمده، من دون أن يتحقّق فيه أيُّ نوعٍ من الانتصار حتى اليوم، على الرغم من الجوع والعطش اللذيْن يوشكان على تدمير الإرادة العربية تماماً.
ربما كان هذا الصوم الآخر حصيلة "صياماتٍ" عربيةٍ شتى، بدأت منذ "هلال" بعيدٍ، خدعهم به سادتهم، حين زيّنوا لهم أن صيام يوم واحد عن الحرية كفيل بالإفطار على "وجبة حرية"، لن تتسع لها مائدة الوطن العربي بطوله وعرضه، فكانت الحصيلة أن العرب ما يزالون ينتظرون مدفع الإفطار حتى اللحظة.
ولربما كان صوماً عن "تداول السلطة"، وحصرها في فرد واحد، وسلالة واحدة، بدءاً من "الهلال الأموي"، ولم ينته بعد مع "الهلال السيسي"، و"الأسدي"، وسائر "الهلالات" الأخرى التي "تنير" شرقنا صباح مساء، بذريعة أن هذا الصوم "له ما بعده" من "أعيادٍ" تليق بالأمة، وتعوّضها بإفطاراتٍ تليق بصبرها على الاستبداد، والامتناع عن ملذات الحرية والتنعم بالحقوق الأساسية للإنسان.
على أن "الإفطار" كان يحدث. لكن، ليس على الموائد العربية، بل على موائد أخرى، من قبيل مائدة "سايكس- بيكو" التي أقنعتنا أن الصوم عند ظهور "هلال القُطرية" كفيل بإيصالنا إلى إفطار "وحدويّ"، لا نجوع بعده أبداً، كما كانت هناك موائدُ مماثلة، تفرش في تل أبيب، وتوهمنا أن هلال "السلام" لا بد أن يحقق لنا من الثمار ما تعجز عن حمله كل القوافل العربية، ببعيرها وحميرها. وفي النتيجة، ازداد العرب جوعاً على جوع، وعطشاً على عطش، ولم يظفروا من تلك الوعود كلها، إلا بمزيدٍ من الهيمنة الصهيونية والإمبريالية على بلادهم ومقدّراتهم.
وثمّة "هلالاتٌ" كثيرة ماكرة انخدع بها العرب، وهم يتيهون في بيدائهم القاحلة، منها "هلال التحرير"، و"هلال التحديث"، وليس آخرها بالطبع "هلال الربيع العربي" الذي كان يُؤذن حقيقةً بإفطارٍ انتظره العرب منذ عقود طويلة من الصوم، ثم جاء من يخطفه، ليطيل ليلهم إلى أبعد النهايات عتمةً وقهراً وذلاً.
على هذا النحو، في وسعنا أن نفهم هذا التضخّم "الرمصاني" الذي يهذي به العرب الآن، احتفاءً بظهور هلالٍ واضح، في بداية شهرٍ وآخره، لتصبح البيوت العربية البائسة مسرحاً لانهماكٍ مفرطٍ بالتفاصيل، وحمّى ملتهبةٍ بانتظار الظفر بانتصارٍ مؤكّدٍ على صوم محدّد الملامح، مع رموز طقسية كثيرة، محدثةٍ ومطوّرة، عاماً تلو آخر، مثل قنديل رمضان الذي أشعر، أحياناً، بأنه بديل لمصباح "ديوجين"، في رحلة العرب الطويلة، للبحث عن الذات الضائعة في ركام التاريخ، أو في قذيفة المدفع العثماني، بديلاً عن مدافع عربية صدئت في مرابضها، باستثناء ما أشهر منها في وجه الشقيق، أو في هلال "النيون" الذي بات يزيّن النوافذ والشرفات العربية، بديلاً، ربما، عن هلالٍ آخر لم يستطيعوا الظفر به، وهم ينتظرون خاتمة صومٍ طويلةٍ، لم يظهر هلالها بعد.



EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.