صور كريمة عبود: وقائع مدن فلسطينية ساحرة

29 يوليو 2020
تبدو أعمالها في طرائق تشكلها خيالاً واقعياً (أرشيف)
+ الخط -

على مستوى الأسلوب الفني، لا تختلف أعمال الفنّان خليل رعد عن أعمال الفوتوغرافية الفلسطينيّة الرائدة كريمة عبود (1896-1940)؛ فهما معاً يشتركان في الهاجس التاريخي والتوثيقي، الذي يسم أعمالهما الفوتوغرافية ويجعلها الأقرب إلى طبيعة الحياة اليومية في مرحلة مُبكرة من داخل المجتمع الفلسطيني.

غير أنّ الأمر المُثير في أعمال كريمة عبود، بالرغم من ريادتها على مستوى أسلوبها الفوتوغرافي، أن تكون أول فوتوغرافية فلسطينية محترفة من الناصرة، وظلّت المرأة يكتنفها الكثير من الغموض على مستوى مدونتها الفوتوغرافية وحياتها العائلية، حتى عُثر في السنوات الأخيرة على صورها، وتطفو معها صورة كريمة عبود، التي ستشغل أعمالها لسنوات طويلة العديد من المعارض العربيّة. غير أن اكتشاف أعمال عبود، لم يمرّ سريعاً، ولم يكن يخلو من براءة؛ إذ رافق ذلك جدل كبير حول ما إذا كانت كريمة عبود أول فوتوغرافية عربيّة، في الوقت الذي ظلّت في الصورة داخل الأوساط الدينية محرمة، ومثار جدل كبير من لدن الفقهاء منذ القرن التاسع عشر.

كريمة عبود (تويتر)
كريمة عبود (تويتر)

لكن الدرس التاريخي الحفري الذي سينقب عمّا إذا كانت عبود أول فوتوغرافية عربيّة، غائبٌ ومُغيّبٌ لشروط وحيثيات هي نفسها تاريخية، تتصل بالعداء الذي خصته الثقافة العربيّة للصورة والتصوّر منذ ما قبل الإسلام، جعلها تقبع في أنساق شفهية، من دون العناية بتاريخ هذا المفهوم، الذي بات يُؤسس شكل الحياة اليومية وجوهرها في زمننا المعاصر.

بياضات مُخيفة يُعاني منها الدرس الفوتوغرافي داخل العالم العربي، جعل الكثير من الباحثين يتناقلون أخطاء وأكاذيب وتأويلات في غير محلها، إضافة إلى تراث فوتوغرافيّ غنيّ ضائع ومنسيّ ومهجور من الجانب البحثي، كما هو الشأن مع تجربة كريمة عبود، ذات التأثير القويّ داخل الفوتوغرافيا الفلسطينية، من ثم ضرورة التأريخ لتجربتها وحفظها داخل كتب ومتاحف ومؤسسات تُعنى بثقافة الصورة لحماية تراثها الفني الغنيّ، كما دأبت على ذلك مؤسسات لبنانية كثيرة، عملت على تنظيم معارض لكريمة عبود والاهتمام بها وتوثيق تجربتها والعناية بأرشيفها والتعريف بها داخل العالم العربي.

يجمع العديد من الباحثين والمؤرخين، على أنّ كريمة عبود هي رائدة من رواد الفوتوغرافيا النسوية في العالم العربي، فتجربة غزيرة من حيث الكمّ والنوع، نظراً إلى السبق التاريخي الذي ميّز ممارسة الفعل الفوتوغرافي لديها، منذ أن أهداها والدها آلة فوتوغرافية، وبتشجيع من أسرتها ذات الأصول اللبنانية، على مواصلة مشوارها الفني باحتراف وفتح استوديو تصوير في مدينة بيت لحم، عبر بورتريهات ذاتية وعائلية، والكثير من البطاقات البريدية المُلتقطة بعدستها للنساء والحواضر والأرياف والمدن داخل فلسطين، جعلها ذلك تتنزل منزلة قوية داخل الأرشيف الفوتوغرافي النسوي، في الوقت الذي أصبحت فيه الفوتوغرافيا اليوم ترفاً فنياً ومجرد هواية بالنسبة إلى العديد من الفوتوغرافيين، لكن عبود جعلتها المنفذ الأول والأخير لأحلامها وهي تدبّ في درب الفنّ. رحلة غنيّة جعلتها اليوم في طليعة الفوتوغرافيات الفلسطينيات الأكثر تأثيراً في تاريخ الصورة داخل العالم العربي.

من صور كريمة عبود (تويتر)
من صور كريمة عبود (تويتر)

غير أنّ تجربة عبود بالمقارنة مع الفوتوغرافيا المعاصرة، تبدو متواضعة بحكم السياق التاريخي الذي أُخذت فيه الصورة ومدى استفادة الفوتوغرافيات الجدد من الثورة التكنولوجية التي سيشهدها العالم من منذ منتصف القرن العشرين، ستجعل مدونتهم الفوتوغرافية أقرب إلى ممارسة فنية، لا تتعامل مع الفعل الفوتوغرافي بوصفه توثيقاً أو تدويناً بالصورة لأحداث تاريخية أو مناظر طبيعية أو بورتريهات عائلية، كما هو الشأن في تجربة عبود، بل إنّ الفوتوغرافيا اليوم أصبحت وسيطاً بين الآلة والفكر لقول كل الأشياء التي لا تستطيع اللغة أن تعجنها وتُعبّر عنها بالكلمات. بالتالي، تُصبح الصورة الملاذ الآمن لهؤلاء الفوتوغرافيات للتعبير عن الجرح الخفيّ والعنف الرمزي، الذي يطبع الحياة اليومية في العالم العربي بمستويات مختلفة من المعالجة الفنية، قد تبدأ بالتصوير الميكانيكي للواقع، أو وضع هذا الواقع داخل قالب تخييلي. لكن كريمة عبود، لم يكُن يعني لها الخيال شيئاً، ما دامت واقعيتها الفوتوغرافية الساحرة، تبدو في طرائق تشكلها خيالاً واقعياً، خاصة في صُوَرها ذات العلاقة بالنساء ويومياتهم داخل بيت لحم. لهذا الغرض التوثيقي، اعتبرنا أن فوتوغرافيتها لا تختلف كثيراً عن أعمال خليل رعد، مع العلم أنّ اللمسة النسوية حاضرة بقوة وبارزة في أعمالها وتمنحها نفساً ساحراً وشاعرياً، مقارنةً بأعمال خليل رعد.

من صور كريمة عبود (تويتر)
من صور كريمةعبود (تويتر)

 

من الأسئلة الفكرية الجوهرية التي تطرحها تجربة كريمة عبود، قدرة فوتوغرافيتها على أنْ تكون في خدمة المؤرّخ، بحكم أنّ الصورة لها قدرة هائلة، مقارنةً بالوثائق المادية في التقاط مكبوت المجتمعات العربيّة وحياتها اليومية، نظراً إلى الصنميّة التي تُميّز هذا النوع من الصورة، وواقعيتها التي لا يتدخل فيها الخيال، هذا إضافة إلى عامل آخر مهم في تجربتها، هو أنها بالرغم من نشوئها في مرحلة حساسة بين أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، ظلّت أعمالها مُتحرّرة من التأثير الاستشراقي الذي طبع بعض التجارب العربيّة الأولى، فهي لا يعنيها تاريخ البلد، إلّا بوصفه ينتمي إلى ديمومة الحاضر، أو بالأحرى يدخل ضمن مسلسل فوتوغرافي تشربته منذ صغرها في الناصرة، وهذا الأمر هو ما يُفسّر فنياً خصوصية بعض أعمالها المُتصلة بالاجتماع الفلسطيني، والمُنفلتة من قبضة النوستالجيا والحنين إلى أزمنة خلت.

المساهمون