صور الموت السوري
(1)
لا تتجاوز قامته نصف متر، كنزته الصغيرة حمراء، وبنطاله القصير أزرق، أما حذاؤه فلا يبدو منه غير نعله الذي يشبه لون الرمل، يداه مستلقيتان بسلام على جانبيه، شعره أسود مبلل، وجهه الذي لا تبدو ملامحه مخفي في الحصى والرمل. هكذا ألقاه البحر، نائماً على بطنه، كما لو كان ينام في سريره الصغير. طفل سوري لفظته أمواج البحر على شاطئ تركي، بعد غرق (البلم) الذي كان يركبه مع عائلته في رحلة الهرب إلى أوروبا. ليس استثناءً هذا الطفل، مئات الأطفال قبله، منهم من احتفظ به البحر في أعماقه، ومنهم من وجد مستلقياً باستسلام كامل للموت على شواطئ المتوسط، مئات بلا أسماء، هل تهم الأسماء هنا؟ أطفال سوريون كثيرون يموتون غرقا كل يوم، وهم يظنون أن خلف البحر ألعاب وحدائق وحلوى ملونة، نتأمل صورهم، نحن الذين عشنا حتى هذه اللحظة، نحن الذين ساعدتنا الحياة على سرقة أعمارهم، نتأمل صور موتهم، وبكل قسوة نحاول أن نتخيل اللحظة التي اكتشفوا فيها أنهم يغرقون، هل شاهدوا الموت وقتها؟ هل ابتسموا له؟ هل أمسكوا بيده، وهم يظنون أنه من سيفتح لهم باب حدائق طفولتهم؟ نتأمل ونحن نسأل عن العدالة والرحمة، هل ثمة وجود لها في هذا الكون فعلا!
(2)
لم يتخيل أحد ممن قرأوا يوماَ رواية "رجال تحت الشمس" للراحل غسان كنفاني، أن حدثها المتخيل سيصبح واقعا ذات يوم، وأن الرجال الثلاثة في خزان كنفاني الروائي، تجاوزوا السبعين في الواقع، وبينهم نساء وأطفال، وأنهم كانوا في خزان الموت هذا هربا من الموت، وأن السائق لم يكن يقصد مساعدتهم، بل التجارة بهم، فالسوري الهارب هذه الأيام مصدر دخل لمافيات التهريب المنتشرة في العالم، لابأس إذا من وضع سبعين شخصا في براد للحوم المحمدة، ولا بأس من إيهامهم أنهم سيصلون، بأمان، إلى أرض الأمان، ليس لدى هؤلاء الباحثين عن أية بقعة للأمان ترف التفكير بخطورة وسيلة نقلهم، ليستغل سماسرة الموت هذا. شاحنة براد للحوم المجمدة، مصمتة بالكامل، تفرغ من اللحوم الصالحة للاستهلاك البشري، وتستبدل بلحم حي، هل يهم أحد إن تجمد هذا اللحم الحي. منذ خمس سنين، واللحم نفسه تفتك فيه براثن الموت من دون أن يكترث أحد، لا بأس إذا، ولن يطرقوا على معدن البراد، حتى لو طرقوا بكل قوتهم، لن يسمعهم أحد، من خمس سنين أيضا يطرقون ويقرعون ويصرخون، ولا يسمعهم أحد، لم يخطر هذا في بالك، يا كنفاني، لم يخطر في بال كل من تعاطفوا مع رجالك الذين تحت الشمس.
(3)
لم يريدوا الرحيل عن أرضهم. هنا عاشوا، وهنا أنجبوا أبناءهم وهنا دفنوهم، وهنا ينتظرون الغائبين منهم، هنا ينتظرون الفرج والخلاص. لهذا لم يغادروا، ظلت أصابعم متمسكة ببقايا جدران بيوتهم، وظلت أرواحهم معلقة على الأسقف شبه المنهارة، وعيونهم على الشبابيك المفتوحة منذ خمس سنوات نحو القادم. الغربة لهم ذل، ترك أراضيهم ورزقهم للغرباء ذل، لم يغادروا، أصروا على البقاء، ذوقوا إذا طعم الموت من براميل الحقد، تأملوا أشلاء أبنائكم، استلموا من القذائف والقنابل والبراميل ما لم يخطر لكم. البلاد بيعت، وعليكم المغادرة فوراً أو الموت الشنيع تحت حجارة بيوتكم وأسواقكم. لن يكترث بكم أحد، البلاد بيعت والثورة بيعت والأحلام بيعت، ولا أحد يكترث، البيع يتم بموافقة الجميع، العالم المتمدن والمتأخر والدولي والإقليمي والمحلي والجار القريب والجار البعيد، غادروا أو سلموا أو موتوا، لا خيارات أخرى. براميل الموت على الغوطة، قذائف الموت على طلاب الجامعات، تفجيرات في كل مكان، موت في المعتقلات، موت من الحصار والعطش والجوع والظلام، من البرد ومن المطر ومن الحر، موت من القهر والعجز والانتظار، موت في كل مكان، سورية أرض الموت المستديم، سورية التي تموت، وقاتلها الأول لم يتزحزح من مكانه، بينما يتناسل القتلة الآخرون من بين أكمامه. سورية التي تصبح شيئا فشيئا طي النسيان، يغرق وجهها في الرمل والحصى، يتجمّد تاريخها في جمادات العالم للحوم الآدمية، يتمزق جسدها ويصبح أشلاء، ولا أحد يكترث.