من سياق الرسالة الموجهة لـ "الشيخ محمود" الذي يبدو أنه كان صلة الوصل بين بن لادن وبقية قيادات التنظيم، يمكن الاستنتاج أن قائد تنظيم القاعدة في اليمن، ناصر الوحيشي الملقب بأبو بصير، عرض تقديم استقالته وزكى العولقي ليحل محله، لكن بن لادن رفض هذه الاستقالة قائلاً "حبذا أن تفيدوه عني في رسالة خاصة بأن يبقى في منصبه؛ فهو مؤهل وقادر على إدارة الأمر في اليمن، ووجود بعض المميزات عند أخينا أنور العولقي أمر حسن لخدمة الجهاد، وحبذا أن يعطينا فرصة للتعرف إليه أكثر".
كما طلب بن لادن إرسال سيرة ذاتية مفصلة ومطولة للعولقي، وكذلك "المعطيات التي اعتمد عليها الوحيشي في تزكيته، مع إفادته بأن تزكيته معتبرة، ولكن نريد أن نطمئن أكثر …".
وعلى الرغم من أن بن لادن لم يوضح من جهته المعطيات التي بنى عليها شكوكه في العولقي، إلا أن أهم الأسباب قد تكون هي جذور العولقي الأميركية ومكان ولادته في الولايات المتحدة.
ومن المفارقات أن بن لادن، وإن كان متردداً في التعامل مع الحاصلين على الجنسية الأميركية بالولادة، ولكنه كان قاطعاً وحاسماً في رفضه منح الثقة لأميركيين بالتجنس، وله فلسفة أو وجهة نظر خاصة في هذا الجانب. إذ إنه يعتبر الحاصل على الجنسية بالولادة متحرراً من أي عهد للولايات المتحدة، بينما المتجنس مقيد دينياً وأخلاقياً بالعهد الذي التزم به أثناء أدائه قسم الولاء للولايات المتحدة عند تسلمه شهادة الجنسية، وفي حال خروجه عن هذا العهد الذي قدمه للأميركيين؛ فمعنى ذلك من وجهة نظر بن لادن أنه قد غدر بهم، ولا يليق بتنظيم القاعدة أن تستعين بغادر.
ولتوضيح هذه النقطة تحدث بن لادن عن محاكمة فيصل شاهزاد، وهو أميركي بالتجنس من مواليد باكستان حاول، في مايو/أيار 2010، تفجير "تايمز سكوير" بسيارة مفخخة، لكن شرطة نيويورك أحبطت المحاولة، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. وعن شاهزاد قال بن لادن "لعلكم تابعتم في الإعلام محاكمة الأخ فيصل شاهزاد فرج الله عنه، والتي ورد فيها سؤال للأخ بأنك قد أخذ عليك عهدا عند أخذ الجنسية الأميركية، فكيف قمت بهذا العمل؟ فكان رده بأنه كان يكذب عليهم، ولا يخفى عليكم أن هذا ليس من الكذب المباح على الأعداء وإنما غدر، ولعل الأخ لم يكن على علم بهذا، وأشكلت عليه المسائل فأرجو أن تطلبوا من إخواننا في طالبان باكستان أن يستدركوا الموقف، ويبرزوا حرمة الغدر وموقفهم منه، وأن الأخ ربما كان يجهل أن فعله ذلك غدر. مع ملاحظة أن الأخ فيصل شاهزاد قد ظهرت صورته مع القائد محسود، فأرجو التبين هل كان محسود يعلم أن أخذ الجنسية الأميركية يتضمن أخذ عهد الشخص الذي يأخذها بألا يضر بأميركا، فإن كان يجهل ذلك يشار إلى هذا الأمر، إذ إنه لا يخفى عليكم الآثار السلبية المترتبة على ألا يتابع هذا الأمر، ولتزال على المجاهدين شبه نقض العهود الغدر".
تجدر الإشارة هنا إلى أن رسالة بن لادن لم تكن بخط يده الذي يمكن للخبراء التيقن من أن هذا هو رأيه الحقيقي، بل كانت الرسالة مطبوعة ومصدرها هو كلية "ويست بوينت" العسكرية الأميركية وخالية من أي توقيع، بل مذيلة باسم حركي هو "زمراي" ولا يستطيع أن يجزم بأن هذه هي آراء بن لادن الحقيقية سوى من عايش الرجل عن قرب، وهم قلة في هذا العالم، وغالبيتهم أصبحوا في قبضة الاستخبارات الأميركية.
والرسالة المشار إليها أعلاه كانت مؤرخة في 27 أغسطس/آب 2010، وكان مقتل بن لادن في مايو/أيار 2011 بينما قتل أنور العولقي في سبتمبر/أيلول 2011 في اليمن، ولم يلتق الرجلان قط.
ومن الواضح من رسالة بن لادن أنه كان مستاء من بعض البيانات التي أصدرها زعماء تنظيم "القاعدة في شبه الجزيرة العربية"، عبر وسائل الإعلام ومن بينها بيانات العولقي، الذي كان خطيباً مفوهاً ومتحدثاً لبقاً، وكان خلف عدد من المبادرات الإعلامية خاصة مجلة "إنسباير" الإلكترونية بالإنجليزية، التي كان بن لادن يخشى من الآثار الخطيرة لها.
ولم يكن بن لادن يمانع أن يشارك المهاجرون بعمليات داخل الولايات المتحدة، شريطة ألا يكونوا قد أعطوا عهداً لأميركا بعدم الإضرار بها.
ليس هناك ما يؤكد أن بن لادن كان يتقبل النقد، إلا أنه يوجد في الرسائل المتبادلة مع أعوانه ما يشير إلى أن زعيم تنظيم القاعدة كان يرحب بالنصح ولا ينزعج منه. وعلى سبيل المثال ورد في رسالة منه إلى أحد المخلصين له ما يوحي بأنه تلقى نصيحة ما في الشأن الإعلامي من القسم "الأوردي" في مؤسسة السحاب، الذراع الإعلامي لتنظيم القاعدة، وعلق على ذلك قائلاً إنه "بخصوص ما أورد الإخوة في (السحاب أوردو) عن بيان الفيضانات فأنا أشجع النصيحة والنقد الهادف، وأدعو لكل من يهدي إلي عيوبي جزاه الله خيراً. وهذا هو واجب المسلمين فيما بينهم".
وقبل اغتيال بن لادن بشهور كانت كل رسائله تدل على أنه عاكف على التحضير "للاحتفال" بإحياء الذكرى العاشرة لما يسميه بذكرى (الحادي عشر)، حاذفاً كلمة سبتمبر/أيلول من التسمية لسبب غير معروف. وفي إطار التحضيرات لإحياء ذكرى الهجمات الإرهابية يبدو أنه أعد منذ وقت مبكر خطاباً لتسجيله، وكان بن لادن محتاراً هل يخاطب به الشعب الأميركي قبل مجيء الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني 2010، أم ينتظر حتى حلول الذكرى العاشرة لهجمات سبتمبر التي خطفه الموت قبل شهور من حلولها.
بدأ بن لادن، يطلب النصح والمشورة بشأن ما يتضمنه مشروع خطابه، وخصوصاً الجزء الموجه للشعب الأميركي، فتلقى تنبيهاً مكتوباً من أحد معاونيه بأن هناك خطأ معلوماتياً عند حديثه عن رئيس أميركي سابق، وقال الناصح "إذا كان المقصود هو القول المنسوب لـ (بنجامين فرانكلين) والذي أشار إليه الشيخ أيمن (الظواهري) في كلمة من كلماته، فيجب التذكير أن (بنجامين فرانكلين) لم يكن رئيساً، وإنما كان "رجل دولة" وأحد المؤسسين للولايات المتحدة ولدستورها. ولم أسمع بالقول المنسوب له إلا من الشيخ أيمن، ولا أعرف مصدر الرواية ولا مدى شهرتها عند الأميركيين، لكن قد يستغل مثل هذا الخطأ للتشهير بالشيخ واتهامه بأنه يتحدث في أمر لا يحسنه (السياسة) بدليل أنه يخلط بين الرؤساء وغير الرؤساء، وإن كان الكثير من الأميركيين قد يظنون أيضاً أن (فرانكلين) رئيس – لظهور صورته في العملة التي تحمل عادة صور الرؤساء – ولكن هذا الخطأ لا يقع فيه عادة من يتحدث في قضايا السياسة، ويحللها ويناظر حولها. بل هو خطأ مشهور بين عامة الناس، وليس بين المتخصصين".
ومضى الشخص نفسه، الذي استشاره بن لادن لتقييم خطابه، في القول إنه "بالنسبة إلى مادة الخطاب، فحسنة وليست مختصة بما قبل الانتخابات النصفية، بل هي صالحة للنشر في أي وقت. وأما بالنسبة إلى مصلحة ظهور الشيخ في المرحلة هذه، فينبغي أن ننظر إلى المسألة من جميع النواحي، والتنبيه إلى أنه بغض النظر عن مرور الانتخابات النصفية؛ فالوقت الآن مناسب جداً لخروجكم بكلمة كهذه، ولا بأس أن يظهر الشيخ بصورته الآن ثم يظهر مرة أخرى في الذكرى العاشرة لغزوات مانهاتن وواشنطن! فكل ظهور له – ما لم يكن ظهوره شبه يومي أو شبه أسبوعي – لا بد أن يكون له تأثير. وتكرار ظهوره على الرغم من الحملة الشرسة التي تشن على القاعدة في كل مكان هو في نفسه ملفت للانتباه!".
وخلص الناصح إلى القول "إنه ما دام لا يوجد مانع أمني من ظهور الشيخ بالصورة، ولا يوجد في الخطاب خطأ أو غيره مما يستوجب إعادة النظر فيه، وما دام الشيخ نفسه راضياً بنشره بعد الانتخابات – والسكوت هنا من علامات الرضا – فأرى إخراجه بلا تردد ولا تأخير، والله أعلم".
وفي رسالة غير مؤرخة موجهة إلى بن لادن، وخالية من توقيع صاحبها الذي يبدو أنه مقرب منه جداً، يبدي الكاتب تذمره من حالة الانفلات وعدم الانضباط لدى بعض فروع القاعدة، ويقترح على بن لادن التفكير في نوع من المحاسبة والضبط والربط، لأن هناك من بدأ يجمع أموال باسم القاعدة، وهؤلاء يسيئون التصرف في المال. كما يقترح الكاتب وضع نظام للبيعة بحيث لا تكون ناجزة إلا إذا تم قبولها، قائلاً إن تنظيم القاعدة أصبح كالميدان الواسع يكفي من يريد الانضمام إليه أن يعلن بيعته له من دون انتظار قبول البيعة أو رفضها. ويرى الكاتب أن البيعة عقد بين طرفين، وليست قراراً يتخذه طرف واحد. لكن الغرض الأساسي الذي دفع الكاتب للتركيز على موضوع الفروع، ومطالبته بتأكيد تنظيم "القاعدة" ارتباطه بفروعه هو على صلة برسالة، ربما وصلت التنظيم من جهة ما في باكستان، تحمل تضييق الخناق على "القاعدة".
ويرى الكاتب أن هناك ضرورة لإشعار الدولة المضيفة أن هناك بدائل. وفي هذا السياق يطالب كاتب الرسالة بن لادن بالتراجع عن معارضته لإعلان انضمام "إخوة الصومال حتى لا يضغط علينا فيما بعد أن نعلن عدم صلتنا بهم أو بغيرهم".
الضغط المشار إليه في الرسالة يبدو أنه باكستاني الموطن، إذ إن رد أسامة بن لادن جاء فيه "في ما يخص باكستان، الرأي بشكل عام هو الحرص على التهدئة وتركيز الجهود على الأميركيين". وأما ما يتعلق بالبيعة واختيار العناصر للمناصب المالية والإدارية، فإن أهم ما في الأمر لدى بن لادن في تلك الفترة هو "حفظ أسرار العمل وتقديم النصح للقيادة".
اقرأ أيضاً: صندوق أسرار بن لادن: بوادر خلاف مبكر مع البغدادي(2/3)