صناعة الإسلام السياسي الحكومي
"إهانة الله لأهل البدع بانعكاس كلامهم عليهم، وكرامة الله لأهل السنة بوقوع كلامهم على غيرهم". بهذه العبارة الملتفة، علق الشيخ المصري محمد عوض المنقوش على وفاة القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، عصام العريان، داخل سجنه. واستطرد شارحاً إن العريان سبق له أن قال إن حسني مبارك لن يخرج من سجنه إلا إلى قبره، فحدثت له "الإهانة" بأن تعرّض هو للموقف نفسه. وأضاف إن العريان من "أهل البدع الإخوان التكفيريين رعاة داعش"، وشبّهه بمسيلمة الكذاب.
المفارقة هنا أن المنقوش هو أحد أبرز الوجوه الصوفية في مصر أخيرا، وتعج صفحته بالكتابات الرومانسية. خصص حلقته الأخيرة من برنامجه "رحلة المحب" للحديث عن الفرق بين الشوق والاشتياق. ويشارك جمهوره تجاربهم مع دعاء "حزب البحر".
ولكن لا عجب حين نضع ما يحدث في صورته الأكبر. ليس المنقوش فردا أو جاء رأيه مصادفة، بل هو تفصيلةٌ في موجة دعم تيارات إسلامية محليا في مصر، وكذلك إقليميا، إنطلاقا من مؤسسات إماراتية، لتقديم بديل للإسلام السياسي الحركي بصورته الإخوانية بشكل رئيسي. ويحمل هذا "البديل الإسلامي الحكومي" ثلاثة أجنحة متناقضة: الصوفية الرسمية، والسلفية الرسمية، وكذلك التنوير الرسمي.
ولا عجب هنا أن نعرف أن الشيخ المنقوش هو أحد أتباع الطريقة الصدقية الشاذلية، والتي أسسها مفتي مصر الأسبق، علي جمعة، وكان المنقوش قد قال سابقا إن نجاة علي جمعة من محاولة اغتيال "كرامة" من كرامات الأولياء. تم تسجيل هذه الطريقة رسمياً في المجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر عام 2018، وقال طلب التسجيل إن عدد أعضاء طريقته بلغ مائتي ألف شخص في مصر ومائة ألف خارجها.
الجناح الثاني للإسلام السياسي الحكومي هو ما يفترض أنه نقيض الصوفية اللدود، أي السلفية المدخلية. في اليمن، شهدنا تحالفا إماراتيا علينا مع كتائب أبوالعباس في تعز، حيث خاضت معارك مسلحة ضد القوات المحسوبة على حزب الإصلاح الإخواني. وفي ليبيا يبدو المشهد أكثر فجاجةً بوجود بارز لقوات من السلفية المدخلية في صفوف قوات خليفة حفتر، والذي كرّر امتداحه لهم علنا. ومطلع شهر أغسطس/ آب الجاري، نشرت قنوات حفتر الرسمية خطابه لكتيبة طارق بن زياد. قال "السلفيين عرفناهم عن قرب ولا نسمح لأحد أن يخدشهم بكلمة لا تليق بهم .. في كل مرة تجابه العدو قوة من قواتنا المعبأة بعدد من السلفيين نجد أن النصر حليفكم، وهذا من فضل الله ودعمه سبحانه للمؤمنين". وبالطبع لا مجال هنا للتساؤل عن علاقة هذا النوع من الخطاب بتأسيس "الجيش الوطني الليبي". .. وللمفارقة، تورّطت القوات السلفية شرق ليبيا في ممارساتٍ اجتماعية، تشمل حرق كتب، وتضييقا على النساء، وكذلك على الأنشطة الصوفية، كما حدث في الاعتداء على ضريح الإمام المهدي السنوسي.
ولا يغيب التيار السلفي نفسه في مصر، سواء بجناحه السياسي الممثل بحزب النور، أو بجناحه المدخلي، كما بتأييد مدرسة محمد سعيد رسلان السيسي بوصفه الحاكم الشرعي المتغلب الذي لا يجوز الخروج عليه، والخروج هنا يشمل الترشح لمنافسته في الانتخابات!
جناح ثالث هو التنوير الحكومي، وهو يبدو الأقل بروزا بحكم محدودية جمهوره، مقارنة بالمنافسة على شريحة جمهور الإسلاميين، وكذلك بحكم تفضيل الأنظمة القدرات التعبوية للتيارات الإسلامية الحكومية. لذلك، على سبيل المثال، حين احتفى إسلام البحيري بانتقاد موهوم للشيخ ابن تيمية في مسلسل "الاختيار" عن الجيش المصري، سرعان ما ظهر شيخ أزهري في حلقة تالية ليسبغ المديح على ابن تيمية، مع استخدامه منظرا للدولة الوطنية كما في الحروب ضد المغول.
تؤكّد كل هذه الصورة، من ناحية، زيف أوهام قوى علمانية عربية، كانت تعزّي أنفسها بأن الاستبداد بديل وحيد عن قوى الإسلام السياسي الرجعية، فظهر أن الأمر لا يعدو صيغا منافسة من الإسلام السياسي.
ومن ناحية أخرى، لا يحتاج المرء تحليلا سياسيا، بل فقط أن يكون ذا نفسٍ سوية، ليرى ما خلف وفاة سجين مسنّ محروم من زيارة أهله ومن الرعاية الطبية، وليرى زيف ما يمنع ذلك، سواء ارتدى قناع الرّقة الصوفية، أو النصوصية السلفية، أو العقلانية التنويرية.