عاد دميرتاش عن قراره بدخول كلية التجارة البحرية، بعدما علم بأنّ انتماء أخيه إلى حزب "العمال الكردستاني" سيكون عقبة في وجهه. دخل كلية الحقوق في أنقرة، وبدأ مهنة الدفاع عن حقوق الإنسان في عدد من المنظمات، ومنها رابطة حقوق الإنسان التركية، التي شهدت خلال رئاسته تحولاً كبيراً بالتركيز على الجرائم السياسية التي شهدتها تركيا بشكل واسع في حقبة الثمانينيات والتسعينيات، والتي عادة ما يطلق عليها في الإعلام التركي: "جرائم الفاعل المجهول"، التي قادت جزءاً كبيراً منها المخابرات التركية ضد الناشطين الأكراد واليساريين في فترة ما بعد انقلاب 1980. لم يطل الوقت كثيراً حتى وصل دميرتاش إلى إدارة فرع منظمة العفو الدولية في دياربكر.
يؤكد دميرتاش أن معرفته الأولى بانتمائه القومي، كانت في سن الخامسة عشرة، عندما رأى التشييع الكبير الذي حظيت به جنازة إحدى قيادات "العمال الكردستاني" في عاصمة الحركة القومية الكردية أي دياربكر، وعدد القتلى الذين سقطوا في هذا التشييع برصاص "مجهولين"، عندها كانت لحظة التحول الكبيرة في شخصيته سياسياً.
اقرأ أيضاً: "الشعوب الديمقراطي": حزب مهمشي الكمالية يفتح أبواب الجمهورية الثالثة
تحوّلت الشخصية الكاريزماتية، ذات القدرة العالية على الخطابة باللغة التركية وباللهجتين الكرديتين أي اللازية والكرمانجية، إلى حجر أساس في المشهد السياسي التركي، وذلك بعد أقل من ثماني سنوات على دخوله معترك الحياة السياسية، بالحصول على مقعد برلماني وهو في الـ34 من عمره، عن حزب "المجتمع الديمقراطي"، (أحد أجنحة العمال الكردستاني).
لم يكن التحوّل الذي قاده دميرتاش في الحركة القومية الكردية مقتصراً على قيادة التطبيق الواسع لمراجعات زعيم "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان، بل كان هناك تحوّل مماثل على صعيد الأداء السياسي لليسار التركي عامة. وبينما كان الساسة الأتراك الآخرون مشغولين بأداء الخطابات النارية مرتدين البزات الرسمية، ركّز "سلوش" (لفظ التحبّب بالتركية الذي يطلق على اسم صلاح الدين)، على استحضار صورة الزعيم العصري المختلف والبسيط. فكانت صوره وهو يقود الدراجة الهوائية (رياضته المفضلة) بكامل الزي الرياضي، تملأ المجلات التركية. أمّا مقاطع الفيديو التي ملأت شبكات التواصل الاجتماعي، فكانت لدميرتاش المغني والعازف الماهر على آلة الساز (آلة وترية تقليدية تشبه البزق).
لم يكن "الصبي الجميل"، كما يطلق عليه الإعلام الموالي لـ"العدالة والتنمية"، رقماً سهلاً، إذ شكّلت عبارة "أردوغان، لن نجعلك رئيساً علينا"، كل الخطابات الأخيرة التي ألقاها دميرتاش في الاجتماع الأخير لكتلة "الشعوب الديمقراطي"، قبل التوجه إلى الانتخابات، والتي أصبحت الوسم الأعلى حضوراً في تركيا على شبكات التواصل الاجتماعي. بل وكانت نقطة تحول جوهري في الرؤية السياسية للحزب، أنهى خلالها دميرتاش جميع الأحاديث المتداولة في الإعلام التركي حول وجود اتفاق ضمني بين"العدالة والتنمية" و"الشعوب الديمقراطي"، قضى بترشح الأخير على قائمة حزبية تمهيداً لخسارته وحيازة "العدالة والتنمية" على أغلبية برلمانية كافية، تسمح بالتحول إلى نظام رئاسي مقابل إعطاء صلاحايات واسعة للولايات، بما قد يشكل التفافاً على المعارضة القومية العالية لفكرة الإدارة الذاتية التي يطالب بها "العمال الكردستاني".
اقرأ أيضاً: صلاح الدين دميرتاش: "أوباما التركي"
هذا التحوّل أجّج الخلاف الكبير المستعر أساساً مع كل من رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بسبب الاحتجاجات التي دعا إليها دميرتاش لمساندة مدينة عين العرب السورية وما رافقها من أعمال عنف. فاضطرت الحكومة التركية بموجبها إلى دعم قوات حماية "الشعب الكردية" التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (جناح العمال الكردستاني في سورية). لم يكن الثمن الذي دفعه دميرتاش سهلاً. توقّفت عملية السلام حينها، ولم يسمح لهيئة "الشعوب الديمقراطي" بزيارة أوجلان في سجنه بجزيرة إمرلي إلا بعد إخراج دميرتاش من اللجنة، وهذا ما حصل.
كان للعداء الشرس بين قيادات "العدالة والتنمية" ودميرتاش، دور كبير في رفع شعبية الأخير، الذي بات رمزاً لجميع الحاقدين على التوجه السياسي لـ"العدالة والتنمية". بلغ هذا التعاطف ذروته، قبل يوم واحد من الانتخابات، إثر التفجيرات التي حصلت في مدينة دياربكر، قرب أحد مهرجانات "الشعوب الديمقراطي"، والتي أودت بحياة 3 من أنصاره وجرح مائة آخرين، ولم تكن تبعد عن دميرتاش بأكثر من 30 متراً.
عندما أصبح دميرتاش نائباً في البرلمان، وبعد انتقاله إلى أنقرة، اضطر إلى العودة مع عائلته إلى دياربكر، بعد التمييز العنصري الذي تعرّضت له عائلته. أكّد دميرتاش في إحدى المقابلات التفزيونية، أنّه "حتى حارس المبنى، كان يعلّم أولاده بألا يلعبوا مع بنات "الإرهابي دميرتاش".
"الصبي الجميل" استمر في جهده لتوسيع صفوف حزبه وضم أطيافاً غير كردية إليه، حتى أصبح "الشعوب الديمقراطي" صاحب 13 في المائة من أصوات الناخبين الأتراك، أكثر من 8 في المائة منها، جاءت من خارج أنصار حزب "العمال الكردستاني" بحسب ما تفيد الإحصاءات واستطلاعات الرأي.
يلخّص التحوّل السياسي الذي قاده دميرتاش أو"أوباما الأكراد"، تجربته في الدفاع عن حقوق الإنسان، الأمر الذي أكّده الأخير في الكلمة التي ألقاها خلال المؤتمر الصحافي الذي تلا إعلان النتائج، قائلاً: "نحن الشعب المظلوم في تركيا، الذي يريد العدالة والسلام والحرية، حققنا نصراً هائلاً اليوم". لا يزال دميرتاش النجم الصاعد في السياسية التركية منذ الانتخابات الرئاسية، لكن استمرار هذا الصعود سيواجه الكثير من التحديات، على رأسها القدرة على إدارة "الشعوب الديمقراطي" الذي بات تحالفاً واسعاً لقوى اليسار والفئات الاجتماعية والمذهبية والقومية المهمشة تاريخياً في الجمهورية التركية، ولم يعد ممثلاً حصرياً للأكراد، وأيضاً إعادة ترتيب العلاقة مع "العمال الكردستاني".
اقرأ أيضاً: أكراد تركيا وخطر إطاحة "التيار السلمي"