كشفت شركة ديليك الإسرائيلية عن صفقة عقدتها مع شركة دولفينوس المصرية، بموجبها تستورد مصر 64 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي لمدة عشر سنوات، مقابل 15 مليار دولار.
احتفى بالصفقة نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، ورأى أنها نصرا اقتصاديا وسياسيا، بل يوم عيد. بينما اعتبرها الرئيس عبد الفتاح السيسي، انتصارا مصريا على المنافسين في سوق الغاز بالمنطقة، وجاء تصريحه بعد يومين من تجاهل الحكومة للتساؤلات والقلق الذي ساد المجتمع بعد الاتفاقية، والتي تجاهلتها الحكومة في البداية، فهي لا تعنيها، وتقع في نطاق أنشطة القطاع الخاص.
وعلى غير الحقيقة، أعلن متحدث باسم وزارة البترول أنه لا يعرف تفاصيل الاتفاق، برغم إعلان الجانب الإسرائيلي حدوث مشاورات ما بين الحكومة المصرية والقطاع الخاص بشأن هذا الاتفاق، وهو ما يؤكده إصدار القانون 196 لسنة 2017، والذي ينظم مشاركة القطاع الخاص المصري في مجال تجارة واستثمار الغاز.
قبل كل شيء، لابد من التأكيد على أنه لا يمكن النظر إلى الاتفاقية بالقواعد العادية للتعاون الاقتصادي، والذي يحكمه منطق المكسب والخسارة كعامل رئيسي، لأن التعاون مع إسرائيل ليس محكوما وحسب بهذا المنطق، ولكنه أيضا يتعلق بالأمن القومي المصري، انطلاقا من كون إسرائيل عدوا تاريخيا لمصر، بل إنها وُجدت بالأساس لتعطيل أي أفق لنهوض المنطقة العربية، ولحصار مصر جغرافيا وسياسيا وأمنيا واقتصاديا، وهذا هو الدور الوظيفي لإسرائيل.
لذلك، فإن الحديث عن الاتفاقية بوصفها "عملية اقتصادية بحتة"، كما صرح وزير البترول المصري طارق الملا، يعنى تجاهلا للدور الوظيفي لإسرائيل، وكونها كيانا استعماريا توسعيا، وهذا الدور لن يتغير لأنه مرتبط بوجودها وداعميها.
ومن هذا المنطلق، لا تكفي القراءة الاقتصادية المعزولة عن سياقات التاريخ والجغرافيا السياسية، كما أنه لا يمكن فهم ما يجري من دون الإشارة إلى الصراع الإقليمي.
ويمكن تحليل الاتفاقية إذن من جوانب: أولها موقع وآثار الاتفاقية اقتصاديا وما تنتجه من رابحين وخاسرين، وثانيا موقع الاتفاقية من التحالفات والصراعات الإقليمية، وثالثا موقع الاتفاقية وتأثيرها في السياسة الخارجية المصرية، ورابعا دور مجموعات المصالح في تشكيل السياسات الاقتصادية والعلاقات الخارجية لمصر.
موقع وآثار الاتفاقية اقتصادياً
سعت إسرائيل، منذ توقيع اتفاقية السلام مع مصر عام 1979، إلى زيادة أوجه التعاون المختلفة. لكن حالة الرفض الشعبي للتطبيع، بالإضافة إلى اعتبارات الأمن القومي، جعلت وتيرة التعاون بطيئة، ومازالت مؤشرات الميزان التجاري منخفضة نسبيا.
تتمثل أهم النتائج الاقتصادية للاتفاقية الأخيرة، في رفع نسب التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل، وتخفيف عجز الميزان التجاري الإسرائيلي، وسترفع العجز في مصر، وستوفر الاتفاقية حصيلة مالية، 15 مليار دولار، ستوجه، كما أعلن نتنياهو، إلى برامج التعليم والصحة، بينما ستمثل التكلفة المالية للصفقة ضغطا على حصيلة مصر من النقد الأجنبي.
واتضحت أولى النتائج الاقتصادية للاتفاقية فور إعلانها، حين ارتفعت أسهم شركة الغاز الإسرائيلي تمار بنسبة 19%. على المدى البعيد، حمت الاتفاقية إسرائيل من احتمالات انخفاض سعر الغاز مستقبلا، في ظل تعدد الاكتشافات في منطقة البحر المتوسط.
على الجانب المصري، ترى الحكومة أنها حققت جزءا من استراتيجيتها بالتحول إلى مركز إقليمي للطاقة، وإسالة ونقل الغاز. بينما عززت إسرائيل مكانتها كمصدر للغاز لكل من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
وتري الحكومة المصرية أن الاتفاقية ساهمت في حل مشكلة قضايا التحكيم الدولي، بعد قرار وقف تصدير مصر الغاز لإسرائيل، والذي بموجبه ستدفع مصر ما يزيد عن مليار دولار لإسرائيل، بينما حصلت إسرائيل في حقيقة الأمر على أكبر من هذا المبلغ، نتاج هذه الصفقة. على جانب آخر، زادت فرص إسرائيل في تعزيز أمنها ووجودها في المنطقة العربية، وحماية حدودها، واستطاعت النفاذ إلى مساحة أكبر من الأسواق، وإزالة جانب من الحواجز التي تحجب التطبيع.
الاتفاقية والتحالفات والصراعات الإقليمية
منذ عامين، تشكّل تحالف في المنطقة بقيادة مصر والسعودية، يحاول إدماج إسرائيل في المنطقة، وتمكينها من إقامة علاقات مع الدول العربية، مقابل خطة تسوية أوضاع الفلسطينيين وتسوية الصراع العربي الإسرائيلي.
وفى هذا الإطار، طُرحت صفقة القرن، تزامن معها إعلان مشاريع التعاون الاقتصادي المصري السعودي، بعد اتفاقية تيران وصنافير، والتي أتاحت لإسرائيل إمكانيات الحركة، وستتيح لها التعاون الاقتصادي مع مصر والسعودية والأردن في مشروع نيوم، وربما سيحمل المستقبل مشروعات أخرى وضم شركاء آخرين.
تلعب هنا صفقة الغاز دورا في تسهيل هذا التوجه، بحكم أن مصر والأردن سيتلقيان الغاز من إسرائيل، والذي سيمر في أراضي الدولتين، وسيحد هذا التعاون من الطموحات التركية في لعب دور أكبر في سوق الغاز، والذي يشهد تنافسا في عمليات التنقيب والمعالجة.
شهد العام الماضي خلافات تركية مع قبرص واليونان بشأن التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية، بينما استطاعت مصر توقيع اتفاق ترسيم الحدود مع قبرص، سمح بالتعاون في التنقيب عن الغاز داخل المياه الإقليمية، وزادت إسرائيل علاقتها مع قبرص واليونان في هذا المجال، بينما يسعى لبنان إلى التنقيب عن الغاز في مياهه الإقليمية لحل مشكلة الطاقة، وهذا غير مرحب به في إسرائيل، خاصة مع الدور المتنامي لحزب الله، وتدخلات إيران في أربع دول عربية، مما سيوسع نفوذها الذي يقلق إسرائيل.
أثر الاتفاقية في السياسة الخارجية المصرية تجاه إسرائيل
بدأ التطبيع الرسمي مع اتفاقية كامب ديفيد، وازدادت أوجه التعاون، مع محاولات التسوية للقضية الفلسطينية. بعد اتفاقية أوسلو 1993، دخلت العلاقات الاقتصادية العربية مع إسرائيل مرحلة جديدة، وبدأت مصر زيادة علاقات التعاون في قطاع الزراعة، على يد يوسف والي، وزير الزراعة آنذاك، وكذلك زيادة التعاون في قطاع السياحة والطاقة، والذي قاده حسين سالم، المقرب من مبارك، عبر استثماراته في القطاعين.
كرر حسنى مبارك، خلال خطاباته، الربط بين السلام في منطقة الشرق الأوسط والتعاون الاقتصادي المشترك، وضح ذلك في خطاب مؤتمر القمة الاقتصادية العربية في شرم الشيخ عام 1999، حيث تحدّث عن ضرورة دعم عملية السلام كضرورة للتنمية، ودعا إلى مشاركة القطاع الخاص مع الدولة، لبناء مشروعات إقليمية، تخدم أهداف الحكومات، وتزيد في نفس الوقت من مكاسب القطاع الخاص، واعتبر الشراكة ضرورية لمستقبل السلام والتنمية.
وهذا الخطاب الذي ساد بعدها، أصبح عنونا وجسرا للتطبيع، عن طريق القطاع الخاص الذي يستطيع تحقيق ما لا تستطيع تنفيذه الدولة، ويرفع الحرج عنها، ويحقق مكاسب للمستثمرين، ويجعل التطبيع جزءا من السياسة الخارجية لمصر.
كرر مبارك ذات الخطاب خلال انعقاد القمة الاقتصادية العالمية في شرم الشيخ عام 2008، معتبرا سيناء معبرا للحضارات والاقتصاد. ويكمل اتفاق الغاز الأخير الرؤية السياسية للنظام المصري الذي يسعى إلى علاقات سلام دافئ بين إسرائيل والعرب، واستكمال عملية السلام.
ويساهم اتفاق الغاز الأخير في تعميق علاقات مصر والأردن بإسرائيل، وتوسيع علاقات إسرائيل ونفوذها، عبر دائرة التنقيب وإنتاج الغاز ونقله إلى أوروبا، وستدفع تلك العلاقات الاقتصادية في اتجاه تغيير السياسة الخارجية تجاه إسرائيل.
دور مجموعات المصالح في تشكيل السياسات الاقتصادية
يُعتبر القطاع الخاص الرابح الأكبر من الصفقة، ويلعب لوبي المصالح المرتبط بإسرائيل دورا في تشكيل والتأثير على القرارات والتشريعات الاقتصادية، فهو من سعى إلى إصدار قانون الغاز مؤخرا، وشجع الاتجاه السياسي الذي يهدف إلى مد جسور التطبيع، ومثل القطاع الخاص موقع الضاغط أحيانا والمستفيد دائما من هذا التوجه.
تضغط مجموعات المصالح الاقتصادية لسن تشريعات وتوقيع اتفاقات تحقق لها الربح، عبر العمل مع الجانب الإسرائيلي. ولعل أبرز نموذج على ذلك حسين سالم، الذي تزعّم هذا الاتجاه وكان قريبا من مواقع اتخاذ القرار، ويأتي علاء عرفة، الشريك الأكبر في شركة دولفينوس التي تستورد الغاز الإسرائيلي، ليكمل الدور بالتعاون مع سالم المالك لشركة شرق المتوسط للغاز.
لعبت كتلة المستثمرين في قطاع الغزل والنسيج من أمثال عرفه، دورا مركزيا في تشجيع الحكومة المصرية على توقيع اتفاقية الكويز عام 2004 (دخلت حيز التنفيذ عام 2007)، والتي بموجبها تفتح الولايات المتحدة أسواقها للمنتجات المصرية من دون جمارك، على أن لا تقل نسبة المكون الإسرائيلي عن 10%.
وبمقتضى الاتفاقية، تم إنشاء خمس مناطق صناعية، لتستفيد إسرائيل من مقومات صناعة الغزل كالعمالة الماهرة منخفضة التكاليف، وتوافر المواد الخام، والمنشآت الصناعية. واستفادت إسرائيل ورجال الأعمال المصريون من شرعنة العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل.
عرفة ليس مجرد رجل أعمال، ولكنه يمثل لوبياً يستخدم كل الإمكانيات لتحقيق أهدافه، مثل عضويته في المركز المصري للدراسات الاقتصادية، وهو مركز بحثي يحاول التأثير في صناعة القرار، عبر إعداد بحوث ودراسات تخدم توجهات مجموعات المصالح، ويتكون من مجموعة من الباحثين وكبار رجال الأعمال.