"التفكير" كناية شعبية عن الأرق أو المرض. بعد استغراقٍ في التفكير، جالساً على مقعده، تأخذ جوزف ستالين غفوة يرى أثناءها كابوساً. إنه يخوض حرباً عالمية ثالثة ويخسرها، فيقع أسيراً في أيدي الحلفاء الغربيين الذين يسلمونه إلى لجنة من طائفة "الكويكرز" المسيحية ليعلّموه، بقوة المحبة، التوبةَ والاعتدال والرقة. وتحسباً لتفجر انفعالاته، يحرمونه من الفلفل الحار والتدخين والكحول، ويصحبه إلى الطبيعة أربعةُ حراس تقاة أشدّاء يلقنونه كيف يبصر الجمال، وكيف يستمتع بالإنصات إلى زقزقات العصافير.
تخيّل برتراند راسل هذا الكابوس في مجموعته "أحلام الأعلام". ستالين أحد صنّاع الكوابيس الكبار في الأزمنة الحديثة، وقدوة العديد من الطغاة العرب الذين انتهجوا الطريق الطويل إلى الاشتراكية، في ذاك المزيج الشنيع من الرقابة والقمع والبيروقراطية؛ كانوا تتويجاً لأخطاء موغلة في القدم ومشبعة بالدم، ومسيرتهم تضيئها الأحقاد الجوّالة وتكللها هذياناتهم، وبإعادة تدوير السلطة مؤخراً لا يختلف عنهم في فنون الخطابة وصغائر الطبع زعماءُ حروبنا الجدد. وإذ يزداد عدد المؤمنين في العالم الأوّل، وفي عدادهم المؤمنون بأن الغرباء والمهاجرين يلطّخون جنسيات الدول والأمم، لا ننسى أن النازية والفاشية كانتا اشتراكيتين أيضاً، وأن المناضل أدولف هتلر قد ألّف عمله الخالد "كفاحي" في السجن.
لم تكن البربرية مجرد اسمٍ لا تزال لغات عديدة تتقاسم استخدامه، المستفزّ هو معاني الكلمة وكيفية استخدامها. ما من أمّة أو شعب لم يُلصق به هذا الاسم. كان الروس برابرة أوروبا الغربية، والفلسطينيون برابرة الصهاينة، والرؤوس التي كوّمها بول بوت في ملاعب كرة القدم لم تكن تبتعد كثيراً عن قتلى قنبلة هيروشيما. لا نتعامل هنا مع المنطق والعقلانية وسداد الرأي، البرابرة هم أعداء ماضينا وسدنة حاضرنا، هم إخوتنا وأشباهنا، وهم كذلك دعاة التمدّن والرقي في أوروبا وشمال أميركا، إذ من الممكن دائماً تدمير الحضارات الأخرى بطرق بالغة التحضر، فيكون مرتكبو الجرائم على درجة من التعلّم والثراء، لا همجاً وفقراء ومجانين، لأن كلّ بربرية - شأنها شأن الأنظمة الشمولية - تتطلّع إلى المحو والإخضاع، ولأنها لا تتميز برفض هذا الإله أو ذاك الشيطان، وإنما بالعجز عن قبول إنسان آخر.
لا مبارزات في هيجان التفكك داخل شرقنا الأوسط، فالمتبارزون عادة متساوون في الأسلحة من حيث المبدأ، ولا لعبة رياضية لأن اللعبة تفترض خضوع جميع اللاعبين للقوانين نفسها، ومع ذلك نسمع يومياً عن وصول "همج" من أصقاع الأرض إلى بلداننا ليجعلوها ساحات مرانهم؛ الظلاميون أسلحتهم برّاقة، وبرابرة الأسد المقهقهون في الأقبية قضوا على ثلاثة عشر ألف معتقل عارٍ وأعزل. البربرية في جميع قارات العالم جادة دائماً، ولا تعرف المزاح، وكالسيكلوب ترى بعين وحيدة، وكذاك الوحش الأعمى تلتهم البشر، وتعادي أفكاراً جوهرية على رأسها الحرية.
عماد تاريخنا كتاريخ كثيرين غيرنا حروب لم تهدأ، ولطالما تنكرت الأخطاء القديمة كحقائق جديدة. عميان عن الحاضر الذي نتخبط فيه ونكاد لا نتقرى شيئاً من ملامحه، أطلقت الحروب الأخيرة وحشيتنا السرية من مكامنها، طفت الرواسب الكتيمة كطبقات مجتمعاتنا، هاج أهل الظلّ وناس الكواليس وقُلبت الطاولات ومُزقت الستائر وأطلق المجرمون من السراديب. كان المجد في حمل الحديد لا في التصدّي له، ومن توسّل الحرب سيتسوّل السلم. في العالم الذي يخنق بتقدمه الوحشي، أنتجت عقولنا أيضاً فظاعات يُعتد بها، وكانت أفكارنا مرعبة كأفعالنا. تعذّر أي تقدّم في غابة التشوهات البطيئة التي فتكت بالجميع، لكن ثمة إيضاح بسيط: تحولات الواقع الكارثية منقطعة النظير، وضحاياها محرومون من الرأفة ومطالبون بالتسامح. في تلك المطالبات جانب لا إنساني وتأخر رهيب. نحن متأخرون وتسامحنا مزيّف، لأن أحداً لن يسامحك إذا لم تكن مداناً أولاً.
أهرقت على المنكوبين في هذه الحروب وعود لا يعادل عددها كميات قتلاهم المهملة في الحسابات. كانت هواءً وعودُ الأشقاء والغرباء، وكان الحنث بها سهلاً، وثمّة مثال كلاسيكي عن نكث الوعود يعود إلى الحرب العالمية الأولى، حين قال المستشار الألماني بيتمان هولفيغ إن الاتفاقية بين بلجيكا وبريطانيا هي "قطعة ورق"، وخرقها أمر عادي. الوعد والإيفاء به مأثرة إنسانية صرفة، مفقودة في الطبيعة، آصرة تشدّ كل المجتمعات، هذا الحبل الذي اعتصم به كثيرون في بلداننا أطبق على خناقهم، ولم يتحول إلى حبل نجاة ليعمل فيه البرابرة سيوفهم وحراب بنادقهم الكليلة. لم يطل سيرنا في أي طريق، كانت الطرق تنسد أو تنتهي إلى هاوية نقيم فيها الآن، حيث يتضاءل إحساسنا بالجنون لأننا جميعاً سائرون على نهجه العريض.
تخيّل برتراند راسل هذا الكابوس في مجموعته "أحلام الأعلام". ستالين أحد صنّاع الكوابيس الكبار في الأزمنة الحديثة، وقدوة العديد من الطغاة العرب الذين انتهجوا الطريق الطويل إلى الاشتراكية، في ذاك المزيج الشنيع من الرقابة والقمع والبيروقراطية؛ كانوا تتويجاً لأخطاء موغلة في القدم ومشبعة بالدم، ومسيرتهم تضيئها الأحقاد الجوّالة وتكللها هذياناتهم، وبإعادة تدوير السلطة مؤخراً لا يختلف عنهم في فنون الخطابة وصغائر الطبع زعماءُ حروبنا الجدد. وإذ يزداد عدد المؤمنين في العالم الأوّل، وفي عدادهم المؤمنون بأن الغرباء والمهاجرين يلطّخون جنسيات الدول والأمم، لا ننسى أن النازية والفاشية كانتا اشتراكيتين أيضاً، وأن المناضل أدولف هتلر قد ألّف عمله الخالد "كفاحي" في السجن.
لم تكن البربرية مجرد اسمٍ لا تزال لغات عديدة تتقاسم استخدامه، المستفزّ هو معاني الكلمة وكيفية استخدامها. ما من أمّة أو شعب لم يُلصق به هذا الاسم. كان الروس برابرة أوروبا الغربية، والفلسطينيون برابرة الصهاينة، والرؤوس التي كوّمها بول بوت في ملاعب كرة القدم لم تكن تبتعد كثيراً عن قتلى قنبلة هيروشيما. لا نتعامل هنا مع المنطق والعقلانية وسداد الرأي، البرابرة هم أعداء ماضينا وسدنة حاضرنا، هم إخوتنا وأشباهنا، وهم كذلك دعاة التمدّن والرقي في أوروبا وشمال أميركا، إذ من الممكن دائماً تدمير الحضارات الأخرى بطرق بالغة التحضر، فيكون مرتكبو الجرائم على درجة من التعلّم والثراء، لا همجاً وفقراء ومجانين، لأن كلّ بربرية - شأنها شأن الأنظمة الشمولية - تتطلّع إلى المحو والإخضاع، ولأنها لا تتميز برفض هذا الإله أو ذاك الشيطان، وإنما بالعجز عن قبول إنسان آخر.
لا مبارزات في هيجان التفكك داخل شرقنا الأوسط، فالمتبارزون عادة متساوون في الأسلحة من حيث المبدأ، ولا لعبة رياضية لأن اللعبة تفترض خضوع جميع اللاعبين للقوانين نفسها، ومع ذلك نسمع يومياً عن وصول "همج" من أصقاع الأرض إلى بلداننا ليجعلوها ساحات مرانهم؛ الظلاميون أسلحتهم برّاقة، وبرابرة الأسد المقهقهون في الأقبية قضوا على ثلاثة عشر ألف معتقل عارٍ وأعزل. البربرية في جميع قارات العالم جادة دائماً، ولا تعرف المزاح، وكالسيكلوب ترى بعين وحيدة، وكذاك الوحش الأعمى تلتهم البشر، وتعادي أفكاراً جوهرية على رأسها الحرية.
عماد تاريخنا كتاريخ كثيرين غيرنا حروب لم تهدأ، ولطالما تنكرت الأخطاء القديمة كحقائق جديدة. عميان عن الحاضر الذي نتخبط فيه ونكاد لا نتقرى شيئاً من ملامحه، أطلقت الحروب الأخيرة وحشيتنا السرية من مكامنها، طفت الرواسب الكتيمة كطبقات مجتمعاتنا، هاج أهل الظلّ وناس الكواليس وقُلبت الطاولات ومُزقت الستائر وأطلق المجرمون من السراديب. كان المجد في حمل الحديد لا في التصدّي له، ومن توسّل الحرب سيتسوّل السلم. في العالم الذي يخنق بتقدمه الوحشي، أنتجت عقولنا أيضاً فظاعات يُعتد بها، وكانت أفكارنا مرعبة كأفعالنا. تعذّر أي تقدّم في غابة التشوهات البطيئة التي فتكت بالجميع، لكن ثمة إيضاح بسيط: تحولات الواقع الكارثية منقطعة النظير، وضحاياها محرومون من الرأفة ومطالبون بالتسامح. في تلك المطالبات جانب لا إنساني وتأخر رهيب. نحن متأخرون وتسامحنا مزيّف، لأن أحداً لن يسامحك إذا لم تكن مداناً أولاً.
أهرقت على المنكوبين في هذه الحروب وعود لا يعادل عددها كميات قتلاهم المهملة في الحسابات. كانت هواءً وعودُ الأشقاء والغرباء، وكان الحنث بها سهلاً، وثمّة مثال كلاسيكي عن نكث الوعود يعود إلى الحرب العالمية الأولى، حين قال المستشار الألماني بيتمان هولفيغ إن الاتفاقية بين بلجيكا وبريطانيا هي "قطعة ورق"، وخرقها أمر عادي. الوعد والإيفاء به مأثرة إنسانية صرفة، مفقودة في الطبيعة، آصرة تشدّ كل المجتمعات، هذا الحبل الذي اعتصم به كثيرون في بلداننا أطبق على خناقهم، ولم يتحول إلى حبل نجاة ليعمل فيه البرابرة سيوفهم وحراب بنادقهم الكليلة. لم يطل سيرنا في أي طريق، كانت الطرق تنسد أو تنتهي إلى هاوية نقيم فيها الآن، حيث يتضاءل إحساسنا بالجنون لأننا جميعاً سائرون على نهجه العريض.