صرخات الموتى الأحياء

02 مايو 2015
+ الخط -
الأخبار تتداول يومياً عن غرقى في البحر المتوسط قبالة السواحل الأوروبية. وصلات من البكاء الغربي على هؤلاء اللاجئين الهاربين من جحيم بلادهم، لتتلقفهم أمواج البحر. لاجئون غير شرعيين من بلاد متعددة، لكن تجمعهم المصيبة الواحدة. مصيبة الحياة في لهيب الشرق الأوسط وبلدانه. وكما هي المعادلة حالياً في هذه المنطقة، كان للسوريين النصيب الأكبر من الغرقى.
لم يغرق هؤلاء حديثاً، ولم تبتلعهم المياه الزرقاء الآن، أو في تلك اللحظة التي انقلب فيها المركب. هم غرقى منذ زمن، لكل منهم تاريخ وفاة صوري، كان ينتظر أن يتحول إلى حقيقة. حقيقة قد تكون عبر صاروخ تتناثر شظاياه على محيط واسع ليحصد أناساً منتظرين قدرهم، أو عبر برميل أعمى، أسقطته طائرات مجرمة فوق رؤوس آمنة، أيضاً، تترقب لحظة الرحيل، أو على حد سكين ظلامي جاهل، ظن أنه أرسل ناساً إلى حتفهم، سيؤمن مكاناً في آخرته المنتظرة.
لم يمت هؤلاء في البحر، هم موتى يسيرون على قدمين. كانوا يظنون أن إكسيراً للحياة ينتظرهم هناك، خلف تلال المياه الهائجة، وأن فرصة عودة الروح ستكون متاحة، عندما تطأ أقدامهم شواطئ تلك البلاد البعيدة. لم يفكروا كثيراً بسماسرة الرحلات ومغامرتهم غير المحسوبة. هم يعيشون حياة غير محسوبة أساساً، وكل يوم يعيشونه هو تأجيل لموت محتوم. لا يملكون شيئاً ليخسروه، فانتظار الموت أسوأ من وقوعه. لم يكونوا يخشون الغرق، وهم الغرقى في أتون صراع بلا نهاية. أدركوا أن صراخهم الطويل، وطرقهم الكثير على جدران الخزان ما عاد يؤتي ثماره. لم يعد أحد يأبه لهم. اعتاد العالم على موتهم، وبات يحصيهم أرقاماً في نشرات الأخبار، حتى إن هذه الأخبار ما عاد يجذبها موتهم، باتت تبحث عن مصادر أكثر إثارة، قد يكون هذا الغرق واحداً منها.
عندما كانوا يموتون جموعاً وفرادى في بلادهم، لم يكن يحظى هذا الموت بكل هذا الاهتمام. لكن مع وصولهم إلى شواطئ الغرب، بات لموتهم حساب آخر تعقد له الاجتماعات، وتنظم له المسيرات والوقفات الاحتجاجية والتضامنية. وقفات واجتماعات لم تستدرك أن هناك موتاً جماعياً ممكناً إلا عندما بات قريباً ملامساً لشواطئ الدول الغربية. هذه الدول فكرت في كيفية حل هذه المعضلة المتمثلة باقتراب الموت منها، وتحميلها تبعات الكوارث الإنسانية التي تحصل جراء مشاهد الغرق وصرخات اللاجئين، محاولين النجاة قبل أن يرقدوا في الأعماق. هذه هي حدود المشكلة بالنسبة لها، لا نظرة إلى ما هو أبعد من ذلك، فاتخذت قرارات تعزيز إجراءات مواجهة الهجرة غير الشرعية، بما في ذلك بإرسال مزيد من السفن والطائرات إلى المنطقة، كما تم تداول مجموعة من الأفكار حول تحصين المياه الإقليمية الدولية بما يشبه الجدران العازلة.
جدران وإجراءات تحمي هذه البلدان من مشاهدة الموت الجماعي مباشرة أمامها، وهي التي اعتادت مراقبته من خلف شاشات التلفزة، أو عبر الصور في الصحف والمواقع. بهذا تنهي الدول الغربية مشكلتها وتقدم حلولها، التي يمكن تلخيصها بعبارة "ليمت هؤلاء بعيداً"، و"لتكن صرخاتهم من بعيد، هكذا يمكننا التضامن بشكل أفضل". لكن ماذا عن أساس المشكلة والحلول الحقيقية لمعاناة ملايين البشر الذين يصلون نار المنطقة عسكرياً وسياسياً، وهي نار ليست هذه الدول بريئة تماماً من إشعالها أو تأجيجها؟
ليس من جواب، لا في الغرب ولا في الشرق، على مثل هذا السؤال الوجودي المستعصي. وإلى حين يتم استنباط الإجابة من وحي التطورات اليومية، سيبقى الموت بأشكاله سيد الموقف. وسيبقى "الموتى الأحياء" يحاولون الحصول على إكسير الحياة، لكن صرخاتهم هذه المرة ستبقى بعيدة عن شواطئ الدول الغربية التي ستراقب الموت من بعيد بـ "ضمير مرتاح".
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".