صرخات الجوع في مقياس ريختر للثورات

18 يناير 2020
+ الخط -
في بداية الثورة السورية، كتبت مقالة بعنوان "في انتظار ثورة بالشوكولا"، كانت ردًا على أحدهم الذي كان يسخر من الثورة وأهلها، ويضع عليها اشتراطات لا أول لها ولا آخر، تتوافق وتعليمات مقياس ريختر اللينيني للثورات. وكان السيد أدونيس قد سبقه ورفض الاعتراف بالثورة استنادًا إلى مقياسه الريختري الخاص بالثورات، لنكتشف تدريجيًا الأرضية الطائفية لمقياسه، ذاك الذي جعله يحتفي بالثورة الإسلامية الإيرانية في عام 1979، ومنعه من الاعتراف بالثورة السورية.

ما كنّا نعيبه على أدونيس، وغيره، من حيث تفصيل الثورات وفق مقاسات خاصة، فردية أو أيديولوجية أو طائفية أو قومية، انتقل إلى مجتمع الثورة، وتحديدًا إلى "النخب" الثقافية السياسية و"المعارضات" و"رجال الدين" و"الفصائل المسلحة"، فيما كان البشر الطبيعيون، غالبًا، خارج دائرة القياسات المتطرفة، وكانوا في الغالب الأعم أكثر قبولًا للروح الإنسانية والوطنية.

لا يعني ذلك تبجيل الثورات وتقديسها، والامتناع عن نقدها، ولا الكف عن محاولة التأثير بها لتكون أكثر اقترابًا من أهدافها التي انطلقت من أجلها، إنما يعني أهمية أن يكون النقد تضامنيًا؛ وهو النقد الذي ينظر بتقدير إلى أهلها، ويأتي في سياق الرغبة في حمايتها، والحرص على تجنيبها الحفر والانزلاقات.

لننعش ذاكرتنا قليلًا، ولنستذكر تلك النزاعات التي حصلت بين السوريين، طوال عامي 2011 و2012، والتي أخذت، بلا طائل، كثيرًا من وقتهم، على تسمية ما حصل في سورية؛ هل هو "ثورة" أم "انتفاضة" أم "حركة احتجاجية"؟ أتذكر مثلًا أن أحد قياديي الصف الأول في المعارضة قد سماها "تمردًا"، لكنه غيّر رأيه فيما بعد واعتمد اسم "الثورة السورية"، ليعود مرة أخرى ويغيِّر رأيه. ولنستذكر أيضًا خطاب كثير من "المعارضين" عندما كانوا في سورية، وكيف تحول إلى قنابل نارية خارجها. هذا كله طبيعي، ويفترض أن نفهمه ونستوعبه ونقدِّره.

للأسف، رسمت "صفحة الثورة السورية"، مثلًا، صورة للثورة وفق مقياس أصحابها وداعميها للثورات لا تتوافق مع أهداف الثورة ومنطلقاتها، ورسم "المجلس الوطني السوري" و"الائتلاف الوطني" صورة نمطية قاتلة لتمثيل الثورة، لفظت خارجها، تدريجًيا، كل من لا يتوافق معها. وهذا لا يختلف كثيرًا عن مقياس ريختر للوطنية المعتمد من السلطة، منذ نصف قرن، والذي تقيس به وطنية السوريين، وتحدِّد في ضوئه السوري الوطني وغير الوطني.

عندما انطلقت الثورة السورية في 2011 لم تقل، ولا قال أهلها الطيبون، إن إنجازاتها ومكاسبها ستكون خاصةً بمن يشارك فيها، ولم تقل إن خسائرها ستنعكس على المشاركين فيها فحسب. كذلك لم تقل إنها في حال نجحت ستكون مكاسبها مقصورة على من شارك فيها، وستلفظ من لم يشارك فيها؟ لكن - عمليًا - لفظ كثير من "ممثليها" المشبعين بأيديولوجيات مريضة ومُمرِضة، إسلامية وقومية ويسارية، كثيرًا من الثائرين والمعارضين الوطنيين أو غير المؤدلجين، ومن بينهم موظفون وضباط انشقوا عن "النظام السوري".

في لحظة من اللحظات، في أوائل تموز/ يوليو 2012، في "مؤتمر القاهرة لقوى الثورة والمعارضة"، وكان ميزان القوى المحلي والإقليمي والدولي في مصلحة الثورة بصورة جليّة، لفظ "ممثلو" الثورة، أصحاب الصوت الثوري العالي، جهلًا أو مكرًا، أولئك الذين دعوا، إلى إصدار بيان باسم الثورة يؤيّد ما جاء في "بيان جنيف"، وكانت حجتهم "أن الثوار لا يقبلون إلا بالحلول الثورية، وما جاء في البيان أقل من مطالب الثورة"، فيما هم أنفسهم قد تنازلوا، تدريجًا، عبر مؤسساتهم "الثورية": "المجلس الوطني"، "الائتلاف الوطني"، "هيئة المفاوضات"، "سوتشي" و"الأستانة" و"اللجنة الدستورية" عن الحد الأدنى من أهداف الثورة، ولا يحلمون اليوم بتحصيل بند واحد مما جاء في بيان جنيف. يعني ذلك، بوضوح، أن "مقياس ريختر الثوري" خاصتهم قد طرد - عمليًا - من لا يتوافق ورؤيتهم الساذجة في السياسة، ليأخذوا الثورة، ويوصلوها، خطوة خطوة، إلى غير ما طمحت إليه.

كانت "المعارضة" التقليدية، بإسلامييها وقومييها ويسارييها، عبئًا حقيقيًا على الثورة السورية، نقلت إليها أوهامها الأيديولوجية، وخلافاتها ونزاعاتها التاريخية، وعملت على تلوينها، وفق مقاييسها الثورية، بغير صفتها الوطنية؛ الصفة الأساس للنجاح. اليوم، لا نريد أن تكون الثورة ذاتها، المجسّدة في هيئات ومؤسسات فارغة، وفي أيديولوجيات على حافة قبرها، وفي قناعات وانطباعات هشة لا يسندها علم ولا معرفة، عبئًا على أي حراك جديد تحت أي عنوان أو مقياس أو ذريعة؛ فالناس الذين يتحملون الجوع والألم أدرى بطاقاتهم وأحوالهم، ونحن ليس علينا إلا الدعم، والنقد المتضامن، والتحذير، بتواضعٍ حقيقي وأصيل، وبلا عنجهية فارغة.

ما أريد قوله هو إن تعبير "الوطنية السورية"، على ما يبدو، ليس تعبيرًا سهلًا، ولا هو بديهي، بل تعبير يحتاج إلى صناعة وتعلم وتدريب، وهو سابق على الثورة، وعلى كل الثورات، ولا خير يرتجى في أي ثورة إن لم يكن منطلقها وخطابها وآلياتها وممارساتها ومستقرها في حضن الوطنية السورية. لذلك، مهما كان الواقع مليئًا بأوساخ الأيديولوجية والعنف المسلح واللعب السياسي، محليًا وإقليميًا ودوليًا، يُفترض بالثائر، والناشط والسياسي والمثقف أيضًا، ألا يتنازل عن "الوطنية" ويندرج في وحل الواقع؛ لأنه إن فعل سنخسر جميعنا، وسنخسر الوطن. الوطنية السورية هي المقياس الذي يجب أن تُقاس به الأفعال والحوادث والسلوكات كلها.

الثورة السورية ليست ملكية خاصة بفرد أو حزب أو مدينة، ولا هي ابنة أيديولوجية أو دين معيّن، خصوصًا أن من مثّلوها، طوال السنوات الماضية، أوصلوها إلى الحضيض بحساباتهم السياسية الساذجة أو الضيقة، وبتحالفاتهم الهشة. الثورة حلقات متصلة ومتواصلة ومتكاملة من الأفعال المتفاوتة في درجتها ونوعها، بحسب الواقع والزمن، وليس من الحكمة خلق الشروخ والانقطاعات والتمايزات فيما بينها. والثورة "الحكيمة" هي تلك التي تسعى لتقليل أعدائها داخليًا في أضيق نطاق ممكن، وتنظر إلى مواطني البلد كلهم، باستثناء القتلة والفاسدين، بوصفهم - بطريقة أو أخرى - ضحايا.

قدّم السوريون، بدءًا من عام 1970 إلى اليوم، تضحياتٍ لا مثيل لها، في سبيل الحرية والتحرر والاستقلال والكرامة وبناء الوطن، في حلقات متصلة ومتواصلة من النضال والتضحية، وكل منها تفتح طريقًا أو طرقًا، وتسير خطوة أو خطوات، في اتجاه الآمال والطموحات، بحسب الإمكانات والأحوال، ولا يملك أحدنا التقليل من قيمة نضال وتضحيات أي أحد، فكل صرخة ضد الظلم، طوال تاريخنا الحافل، أيًا كان نوعها ومستواها، لها دورها وقيمتها في بناء الوطن وتحرير أبنائه من الظلم بأنواعه كافة. وليس لأحد أن يضع مقياسه الخاص ليحدِّد قيمة أو مستوى كرامة أو درجة نضال أو مقدار تضحية أي فرد أو جماعة، فهذا طريقٌ إن فُتِح سيأكل بعضُنا بعضًا، وسنصل إلى تفصيل "الثورة" وفقَ مقاسِ كلٍّ منا، ومن ثمّ "نفي" أو "سجن" أو "قتل" كلِّ من لا يكون وفق هوانا.

على ما يبدو، إن رؤية اللوحة كاملة، ومن ضمنها أحوال الناس المادية والنفسية، ليست مسألة بسيطة وبديهية. لا تجوز "المزاودة" على أهلنا في الداخل، فنحن لا نعلم ظروفهم وأحوالهم ومعاناتهم تفصيلًا. لقد تغوّل النظام كثيرًا، بعد خبرة عشر سنوات في ملاحقة السوريين وقتلهم، وما كان يصلح خلال 2011-2013 ربما لا يصلح الآن، وثمة جيل آخر داخل سورية يسعى للتعبير عن معاناته، ليس لأكثريته علاقة بالثورة السورية في بداياتها، أعمارهم كانت بين 10 و15 سنة آنذاك، وهم اليوم بين 20 و25 سنة، وليس من الحكمة تعليبهم وفق مقاييسنا الثورية أو مواجهتهم بمواقف ذات طبيعة قبَلية أو السخرية من جهدهم أو وضعهم في مقارنات سطحية لا علاقة لها بقراءة وتحليل الواقع وتفاصيله أو بمعرفة مسارات التاريخ وتحولاته.

قد تتوقف الصرخات ضد الجوع، وقد تتطور وتتحول إلى تظاهرات أوسع، وقد تشجِّع آخرين، لذا ليس من الحكمة إغلاق الباب أو قطع الطريق على أحد، ويفترض ألا يُطلب من أهلها ما لا يطيقون أو يستطيعون احتماله. وليس من الحكمة الدخول في خلافات حول تسمية الصرخات تلك، ولا في مفاضلات ومقارنات بين السوريين حول الشجاعة والكرامة، فهاتان الأخيرتان ابنتا الواقع السياسي الاجتماعي، وليستا صفتين موجودتين على "الصبغيات" الوراثية أو صفتين معلقتين في السماء تهبطان على فئات من الناس دون غيرها. لكن، في الأحوال كلها، لا بدّ من تثبيت قناعة راسخة، لدينا جميعًا، بأن الكرامة الوطنية واحدة، ولا تتجزأ.

F70810A4-198B-4090-97EA-EE7A79D73F16
F70810A4-198B-4090-97EA-EE7A79D73F16
حازم نهار

كاتب وباحث ومترجم سوري، رئيس تحرير مجلة "المشكاة"، فكرية حقوقية فصلية، من مؤلفاته، مسرح سعد الله ونوس، والتأخر في المجتمع العربي وتجلياته التربوية في العائلة والمدرسة، ومسارات السلطة والمعارضة في سورية.

حازم نهار

مدونات أخرى