وجاءت المبادرة الخليجية لتصنع من النائب رئيساً، كحل وسط بين نظام صالح وقوى الثورة. وبعد تسلم هادي رئاسة اليمن، في فبراير/شباط 2012، كمرشح أوحد في انتخابات توافقية، ظل الرجل نائباً لصالح في حزب "المؤتمر الشعبي"، وأميناً عاماً للحزب.
كان من المتوقع حدوث تنازع بين الرجلين، وخصوصاً أنّ صالح حاول قبل استهدافه في حادث جامع الرئاسة الغامض، مطلع يونيو/حزيران 2011، أن يستبدل نائبه هادي برئيس الوزراء آنذاك، علي مجور، لأن المبادرة كانت تنص على تسليم صالح السلطة لنائبه، من دون تسمية النائب.
لكن تفجير الرئاسة أحال صالح ومجور إلى العناية المركزة لشهور، ليتسلم هادي السلطة بحكم موقعه، ثم بعدها تم تعديل المبادرة الخليجية لتنص صراحة على نقل السلطة إلى هادي.
ثلاث قوى
ليس معروفاً على وجه الدقة متى تعرف الرجلان على بعضهما أول مرة، لكن هادي، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الأركان في نظام الرئيس علي ناصر محمد في عدن، نزح إلى شمال اليمن واستقر في صنعاء، بعد هزيمة تيار علي ناصر في أحداث يناير/كانون الثاني 1986 الدامية.
وخلال حرب 1994، بين قوات علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض، قام صالح بتعيين هادي وزيراً للدفاع، مستغلاً حالة "الثأر" بين جماعة هادي وجماعة البيض على خلفية أحداث 1986. وما إن انتهت الحرب حتى تم تعيين هادي نائباً للرئيس صالح خلفاً للبيض، الذي استقر في العاصمة العمانية مسقط، معتزلاً السياسة حتى 2009.
حل هادي كشريك جنوبي في السلطة بدلاً عن البيض، وحلت منذ 1994 "الزمرة" (جماعة هادي وناصر) محل "الطغمة" (جماعة البيض)، في مواقع الشراكة مع "الخبرة" (جماعة صالح)، في المناصب المدنية والعسكرية، مع أفضلية واضحة لـ"الخبرة".
وطيلة 17 عاماً، أدى هادي، ببراعة، دور النائب الزاهد في الهيمنة والظهور، حتى ظن العديد من السياسيين أن هذا الزهد هو المؤهل الوحيد الذي دفع صالح لاختيار هادي نائباً له.
جاءت ثورة فبراير لتحدث شرخاً عميقا في صفوف "الخُبرة"، بل وصل الشرخ إلى نواتها الصلبة (آل صالح، آل القاضي، آل الأحمر)، لتغدو "الزُمرة" هي المجموعة الأكثر تماسكاً في البلد، بعدما كانت تأتي في المرتبة الثانية، وصارت أكثر قوة بعد تسلم هادي السلطة، وقيامه بإزاحة أقارب صالح من مواقعهم القيادية الحساسة في الأمن والجيش وجهاز الاستخبارات، مسنوداً بتأييد خليجي وأممي.
ولم يكن مصير القوى المؤيدة للثورة من صف "الخُبرة"، أحسن حالاً من مصير صالح وعائلته، إذ تم عزل اللواء علي محسن من منصبه، كقائد للفرقة الأولى مدرع، وكقائد للمنطقة الشمالية الغربية، كما ترك هادي بيت الأحمر فريسة سهلة لجماعة أنصار الله (الحوثي)، التي استولت على مناطق نفوذهم القبلي في عمران، وفجرت منزل أبيهم الراحل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر.
رئيس توافقي
من المؤكد أن الرئيس هادي بعد تسلمه للرئاسة، كان بحاجة للقطيعة مع سلفه صالح، وذلك هرباً من ضغوطات وإحراجات الأخير، وكذلك من أجل دحض الشائعات التي أثيرت، وخصوصاً في بعض الأوساط الجنوبية، من أن هادي لن يصبح رئيساً حقيقياً بل صورياً يدار من قبل صالح ومحسن.
ومع الأيام، تمكن الرئيس الانتقالي من جعل أغلب الوزراء في حصة "المؤتمر" موالين له، وكانت أنباء سابقة تداولتها الصحف، أوائل العام الماضي، حول أن هادي هدد باستبدال أي وزير يستجيب لدعوة صالح بمقاطعة اجتماعات الحكومة.
على الرغم من ذلك، ظل صالح وأنصاره يتحاشون الصدام مع هادي، ولا يوجهون سهامهم إليه مباشرة، بل يوجهون نقدهم اللاذع إلى رئيس الحكومة، محمد سالم باسندوة، وحزب "الإصلاح".
وبعد تمكنه من إزاحة أقارب صالح من أبرز مفاصل الدولة، ظهر الخلاف إلى السطح أكثر من أي وقت مضى. وأطلق هادي أكثر من مرة تصريحات ضد "النظام السابق" وامتدح الثورة.
ونقلت وسائل إعلام عن هادي قوله، أمام مجموعة من أعضاء مؤتمر الحوار، إن أعمال التخريب "رفسات تيس مذبوح"، في إشارة إلى سلفه صالح الذي عُرف بلقب "تيس الضباط".
إلى ذلك، لم يلتقِ هادي بصالح منذ تسلمه السلطة، ولم يتواصل معه حتى هاتفياً، وهو ما دفع الأخير إلى التعبير عن امتعاضه من القطيعة، متهماً هادي بأنه "تنكر للأخوّة والزمالة" بينهما، إرضاء لـ"الإخوان المسلمين".
وإلى هذا الحد، كان النزاع بين هادي وصالح لا يزال في حدوده الآمنة التي يتقدم فيها الخلف على السلف بالنقاط، لكن أحداث الأسبوع الماضي جاءت لتفصح عن أن أحدهما يريد إسقاط الآخر بالضربة القاضية.
القناة والجامع
قضت المبادرة الخليجية بأن تتشكل حكومة المرحلة الانتقالية مناصفة بين حزب "المؤتمر" برئاسة صالح، وقوى الثورة ممثلة في "تحالف اللقاء المشترك" وقوى أخرى، على أن يكون منصب رئيس الحكومة من نصيب قوى الثورة، مقابل منصب رئيس الجمهورية الذي كان من نصيب "المؤتمر".
هذه المحاصصة في المناصب أثمرت أداء حكومياً عقيماً، عجز عن التهيئة للانتخابات في موعدها المحدد فبراير/شباط 2014، كما عجز عن تأمين الكهرباء والمحروقات للمواطنين، وكان كل طرف في الحكومة يلقي باللائمة على الطرف الآخر.
ولم يسفر مؤتمر الحوار، الذي عقد لمدة عشرة شهور واختتم مطلع العام الحالي، عن تهدئة الاحتجاجات المطالبة بـ"فك الارتباط" في الجنوب، كما لم يمنع الحوثيين من التوسع العسكري في مناطق شمال الشمال، ليزداد الوضع سوءاً مع عمليات نوعية لتنظيم "القاعدة"، التي استهدفت منشآت عسكرية حساسة، من بينها مجمع وزارة الدفاع في صنعاء.
والأكثر خطورة أن مجمل هذه الأوضاع لا تهيئ لثورة مضادة تعيد صالح أو نجله إلى الحكم، بل تعبّد الطريق لعودة البلاد نصف قرن إلى الوراء، بفعل حروب الحوثيين التي من شأنها إعادة البلاد إلى الخلف.
وبعيداً عن مدى إسهام الرئيس "المخلوع" في بلورة مجمل هذه المخاطر والمهددات، فإن صالح استغل ضعف الأداء الحكومي إعلامياً بشكل فعال، وكأنه ليس رئيساً لحزب ينتمي إليه رئيس الدولة، ونصف الحكومة.
ومع وصول أزمة الكهرباء والمشتقات النفطية إلى ذروتها، الأسبوع الماضي، استغل إعلام صالح الاحتجاجات وحرّض عليها، ليقوم هادي بإسكات قناة "اليمن اليوم"، التابعة لصالح، بقوة الحرس الرئاسي. وعلى خلفية الاحتجاجات أبرم هادي تعديلاً لم يشاور فيه أيّاً من أحزاب التوافق، وشمل خمس حقائب وزارية هامة عزز فيها من سلطته، ثم قام بعد يومين بمحاصرة "جامع الصالح"، الخاضع لإشراف صالح، ولا يزال يحاصره حتى اليوم، مستغلاً إطلاق أحد الجنود النار ابتهاجاً بعقد قران أحد أنجال صالح داخل الجامع.
يرى مراقبون أن خطوة هادي الأخيرة ضد صالح، تعتبر مؤشراً على وصوله للقوة اللازمة التي تمكنه من اتخاذ إجراءات قاسية بحق الرئيس السابق، من دون خشية من عواقب تهز عرشه، وأن صالح بلغ من الضعف حداً يمنعه من إظهار ردة فعل فعالة.
اختار هادي توقيتاً حساساً للقيام بخطواته الأخيرة، وذلك بتزامنها مع زيارة لجنة العقوبات الأممية المنبثقة عن القرار 2140، تحت الفصل السابع، إلى صنعاء، ما يجعل أية ردة فعل غير محسوبة من قبل صالح وبالاً عليه.
التطورات سحبت نفسها على واقع حزب "المؤتمر" نفسه، والذي يقبع كل من صالح وهادي في قمة هرمه القيادي. والواقع أن هادي استطاع شق الحزب باستمالة جزء من قياداته إليه، لكن الجزء الأكبر في القيادة والقواعد لايزال موالياً لـ"الزعيم المؤسس" صالح. وعليه، من المرجح، أن يبقى وضع "المؤتمر الشعبي العام" على ما هو عليه حتى إشعار آخر.
ولعل جرأة الإجراءات الأخيرة التي اتخذها هادي ضد صالح، ستزيد من تمسك الأخير برئاسة الحزب، حتى لا يخسر آخر المواقع التي يحتمي بها من ثلاثة أطراف: هادي، وقوى الثورة وعصا العقوبات الأممية المشهرة فوق رأسه.
بالنسبة لقناة "اليمن اليوم"، حصد صالح تضامناً واسعاً ضد إغلاقها، حتى في أوساط من ثاروا عليه. أما بالنسبة للجامع، فإن موقعه القريب من دار الرئاسة والمطل عليها، يحتم أن يتولى مهمة حراسته حرس الرئاسة، بدلاً من الحراسة الحالية التابعة لقوة حماية صالح. وإن كان هذا الإجراء لازماً من الناحية الأمنية، لكن من غير اللازم، من الناحية الأدبية على الأقل بحسب ما يرى البعض، أن يسعى هادي لتغيير اسم الجامع، الذي يعتبره صالح أبرز إنجازاته العمرانية، وآخر "مواقعه الرمزية"، الآن، وبعد موته. وإذا استمر التوتر بين الرجلين، فإن اللعبة ستدخل حدوداً خطرة، قد تؤهل الوضع لأحداث شبيهة بأحداث يناير 86 الدامية.
إجراءات هادي الأخيرة ضد صالح، وإن كانت وجيهة الدوافع، إلا أنها تمت بطريقة أشعرت خصوم صالح أنفسهم، بالخوف من أن يتحول هادي إلى ديكتاتور جديد، ويأتي عليهم الدور، وهذا ما قد يفسر خلو المشهد، في الأسبوع الأخير، من بيانات تأييد حزبية لهادي، حتى من قبل قوى تتمنى إزاحة صالح نهائياً من المشهد السياسي، وهو على الأرجح، ما دفع هادي لاستصدار تأييد خليجي وأممي.
رغم كل ذلك، يدرك الرئيس هادي جيداً أن نواة "الخُبرة" لن تلتئم من جديد ولن تجمعها المصائب، على الأقل في المدى المنظور.
والزبدة أنه في مجتمع قبلي كاليمن، فإن منطق الممكن، يفرض على القوى الحريصة على نجاح التغيير أن تترك "الأسد المريض" يموت فوق فراشه الوثير بسلام، ذلك أن جزءاً كبيراً من مخالبه تم انتزاعها، والبقية واهية لا تقوى على الفتك.
ومنطق البداهة يقول إن أخطاء الحكومة وهادي هي الشيء الوحيد الذي قد يعيد لصالح أنيابه ومخالبه.