صراع إيراني-روسي على المؤسسات الأمنية السورية: فيلق سادس قريباً

31 مايو 2019
تعمل روسيا على تطويع قوات النظام (جورج أورفليان/فرانس برس)
+ الخط -
تتصاعد حدة المنافسة بين روسيا وإيران للسيطرة على القوات المسلحة في جيش النظام السوري وأجهزته الأمنية، فضلاً عن المليشيات المختلفة التي تم تشكيلها خلال السنوات الماضية، لتعزيز سيطرة النظام بالتزامن مع محاولات للهيمنة على الجوانب الأخرى، السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية. وإذا كان نفوذ روسيا الأساسي يتمركز في التأثير على مفاصل القرارين السياسي والعسكري، فإن لإيران سطوة كبرى على الأرض، بحكم انتشار مليشياتها في أنحاء البلاد، واعتمادها نهج اكتساب الولاءات على أساس طائفي، أو عبر شرائها بالمال والامتيازات. وتوالى في الأسابيع الأخيرة ورود معطيات بشأن محاولات كل من روسيا وإيران التأثير في إعادة هيكلة وتشكيل جيش النظام السوري، إضافة إلى أجهزته الأمنية المشهورة بسطوتها الكبيرة.

تغييرات في الأجهزة الأمنية
ووفق مصادر عدة، ومنها قريبة من النظام، فقد جرت في الآونة الأخيرة حركة تغييرات وتنقلات في الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، كان بعضها بتأثير من إيران وبعضها الآخر بإيعاز من روسيا، في إطار صراع الدولتين على التحكم في هذه الأجهزة، وتطويع عملها لخدمة التوجهات الخاصة بأهداف كل من طهران وموسكو. ووفق هذه المعطيات، فإن الجانبين، الروسي والإيراني، يعملان على تقاسم النفوذ داخل هذه الأجهزة. وبعد انتهاء الجانب الروسي من إحكام سيطرته على قيادة أركان قوات النظام، قام بتحويل "شعبة الاستخبارات العامة" و"إدارة أمن الدولة" لتكونان ذراعاً أمنية واستخباراتية روسية في سورية. كما أحال الروس أخيراً مئات الضباط إلى التحقيق العسكري بتهم متعددة، منها "سوء استخدام السلطة" و"التعاون مع المجموعات الإرهابية المسلحة" و"التخابر مع دول معادية".

وتشير المعلومات إلى أنه تم استحداث أقسام خاصة للمعتقلين من ضباط جيش النظام والأفرع الأمنية في سجني عدرا وصيدنايا، بعد إحالتهم للتحقيق على خلفية قضايا مختلفة. كما أجرى الروس تغييرات عديدة على مستوى قيادة الثكنات العسكرية التي لا سيطرة للإيرانيين عليها، وفق خطة كانوا بدأوا العمل عليها منذ عام 2016 لحل المجموعات الموالية للنظام على امتداد سورية، أو جعلها تتبع لهم بشكل مباشر، كما حصل مع "لواء القدس الفلسطيني". ومن أهم تلك القرارات التي صدرت أخيراً في هذا الإطار، نقل رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، اللواء محمد محلا، للعمل كمستشار في القصر الجمهوري لرئس النظام بشار الأسد. وحل مكان محلا في رئاسة شعبة الاستخبارات العسكرية اللواء كفاح ملحم، وهو من مواليد محافظة طرطوس، وسبق أن تسلّم مناصب عدة، وكان له دور في تصفية عشرات المعتقلين في فرع التحقيق العسكري 248 في دمشق. وكانت تقارير أشارت إلى وجود خلافات كبيرة داخل نظام الأسد على خلفية الإطاحة باللواء محلا، وذلك بعد تحوّل ولائه من إيران إلى روسيا، وتعيين كفاح ملحم المحسوب على شقيق رئس النظام، العميد ماهر الأسد، وعلى الإيرانيين، بديلاً عنه، في إطار لعبة توازن القوى التي يقوم بها النظام لمحاولة إرضاء موسكو وطهران في آن معاً.

وتقول المصادر إن انقلاب محلا من الموالاة لإيران إلى التنسيق المباشر مع الضابط الروسي ألكسندر زورين، (وهو بمثابة الممثل السياسي للقوات الروسية في سورية) تم بالاتفاق مع بشار الأسد، الذي يحاول التقليل من نفوذ الإيرانيين، استجابة لرغبة الروس، ومحاولة لتوجيه رسالة إلى الأميركيين والإسرائيليين بأنه يتناغم مع جهودهم الرامية إلى محاربة الوجود الإيراني في سورية. وكان محلا كُلف من جانب الروس بالعمل على إضعاف الإيرانيين في الجنوب السوري بداية، وذلك لحساسية المنطقة الجنوبية الملاصقة لإسرائيل والأردن، ولكثافة الوجود الإيراني فيها، عبر محاولات تأسيس "حزب الله" اللبناني خلايا ونقاط ارتكاز قريبة من الحدود. وبعد إنجاز اتفاق التسوية مع فصائل الجنوب، العام الماضي، وفتح الطرق وإنجاز "المصالحات الوطنية"، سُلط الضوء على اسم اللواء محلا، وباتت عزيمته أقوى في استهداف رجال ماهر الأسد الموالي لإيران، وتقليص نفوذهم في الجنوب، عبر الدعم الروسي له، لإجراء تغييرات في الأجهزة الأمنية في الجنوب، وكفّ يد المليشيات الإيرانية هناك، فضلاً عن تكليفه بالعمل على إنشاء تشكيل عسكري جديد يسمى "الفيلق السادس" لينتشر في الريف الغربي من درعا، مكملاً لـ"الفيلق الخامس- اقتحام" المنتشر في الريف الشرقي، والذي يتكون أغلب عناصره من مسلحي المعارضة السابقين، الذين منعت روسيا النظام من التعرض لهم، بموجب اتفاقيات "التسوية" التي جرت منتصف العام الماضي، بعد سيطرة النظام على الجنوب السوري. وبذلك خرّب الروس كل ما فعله رئيس شعبة الاستخبارات الجوية، اللواء جميل حسن، الموالي لإيران، والذي كان سبق محلا في زيارة للجنوب، وكللها باعتقالات وطلبات مباشرة للوجهاء بتجنيد أبنائهم في الجيش والأجهزة الأمنية كبادرة لتحقيق مطالبهم المدنية والخدمية.


وتقول مصادر إن من بين القرارات التي يجري نقاشها حالياً تعيين رئيس "جهاز الأمن الوطني"، اللواء علي مملوك، كنائب لبشار الأسد، بعد أن بات مملوك يجمع تحت سلطته كل الأجهزة الأمنية ويقوم بالتنسيق فيما بينها. كما جرت العديد من التغييرات في شعبة الاستخبارات الجوية، الموالية لإيران، والتي يرأسها جميل حسن، طاولت عشرات الضباط في مختلف المحافظات. وأخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه التغييرات على مستوى قيادات الأجهزة الأمنية لم تؤد إلى تغيير في أسلوب عملها القائم على البطش والاعتقال والتعذيب إزاء المواطنين، وما زالت سجونها وأقبيتها تحتجز عشرات الآلاف إلى اليوم.

تغييرات في قيادة الجيش
كما شهدت قيادة جيش النظام تغييرات عديدة في تشكيلات قيادة الفرق العسكرية. مع العلم أن الجيش انخفض عدده من 300 ألف إلى 160 ألف ضابط وجندي، بعد أن انشق عنه نحو 70 ألف ضابط وجندي والتحقوا بفصائل المعارضة، فضلاً عن الخسائر البشرية الكبيرة التي تعرّض لها خلال الأعوام الثمانية الماضية، ويضاف إلى ذلك وجود معوقين لم يعد باستطاعتهم الخدمة العسكرية. وحسب مصدر عسكري في المعارضة السورية، تحدّث لمواقع محلية، فإن حركة التنقلات الأخيرة في جيش النظام طاولت أشدّ الوحدات العسكرية ولاءً وخصوصية وامتيازات، ومنها على سبيل المثال نقل العميد مالك عليا إلى قيادة "الحرس الجمهوري" وتعيين العميد ميلاد جديد رئيساً لأركان "الحرس الجمهوري"، واللواء مفيد حسن قائداً لـ"الفرقة 14"، واللواء بركات بركات قائداً لأحد ألوية "الحرس الجمهوري"، وهذا يدل على تجاوز روسيا شوطاً كبيراً في عملية إعادة هيكلة الجيش. وربما يكون ذلك تمهيداً للحل السياسي الذي تسعى إلى تحقيقه من وجهة نظرها، إذ يضغط الروس لإجراء تغييرات في مفاصل نظام الأسد وتحجيم التغلغل الإيراني فيها، خصوصاً في قوات "الحرس الجمهوري" و"الفرقة الرابعة" المحسوبتين على طهران.

وفي هذا السياق، كانت مجلة "ذا ناشيونال انترست" الأميركية نشرت في 22 يناير/كانون الثاني الماضي تحليلاً حول التغييرات الواسعة الحاصلة في جيش النظام. واعتبرت المجلة أن المشكلة تكمن، في الوقت الحالي، في التشكيلات غير النظامية التي يسيطر عليها أمراء الحرب، والمقاتلين الأجانب الذين جلبتهم إيران. وأشارت إلى أن الخطط المستقبلية لطهران تسعى إلى تكرار نموذج "حزب الله" اللبناني في سورية، أي بناء وكلاء مؤسساتيين لبناء حالة من العسكرة الدائمة. وإضافة إلى ذلك، فإن "الحرس الثوري" الإيراني بدأ بالتأثير على الثقافة الاستراتيجية السورية، التي كانت شكلتها مسبقاً المدرسة السوفييتية. وفي هذا الإطار، ذكر "مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" الإعلامي أن بشار الأسد أصدر، بناءً على طلب من طهران، قرارات تقضي بحل 3 ألوية و11 مجموعة ‏قتالية من "القوات الرديفة" المدعومة من إيران، ودمج عناصرها في صفوف وحدات جيش النظام الرسمية، واعتبارهم "منتسبين متطوعين في صفوف ‏الجيش العربي السوري، ومنحهم أقدمية عسكرية على عدد السنوات التي خدموا فيها في مجموعاتهم".‏ ولا يشمل هذا القرار كل العناصر، بل فقط الذين تم تسجيل رغبتهم ‏مسبقاً في التطوع في صفوف الجيش وممن حصلوا على موافقة طبية وأمنية من قادة مليشياتهم والأجهزة الأمنية ‏التابعة للنظام. وأوضح "المرصد" أن أهم تلك التشكيلات "لواء الباقر" في دير الزور الذي صار اسمه "اللواء 137" التابع إلى "الفرقة 17".

من جهتها، تسعى موسكو إلى ضمان وحدة ومركزية جيش الأسد. وللقيام بذلك، اقترح بعض الخبراء الروس إحياء الفيالق الرسمية الثلاثة لسورية التي كانت موجودة قبل الحرب، وتحويل هذه التشكيلات إلى قيادات إقليمية (مشابهة للقطاعات العسكرية الروسية) لتغطية جميع الجماعات المسلحة النظامية وغير النظامية في مناطق نفوذهم.

محاصرة الموالين لإيران
يعد "الحرس الجمهوري" عنصراً مهماً لحكم الأسد، وعادة ما شغلت عائلة مخلوف مناصب القيادة في "الحرس"، إذ كان عدنان مخلوف، ابن عم والدة الأسد أنيسة مخلوف، القائد الأول لـ"الحرس الجمهوري" خلال فترة حكم حافظ الأسد. ويعتمد "الحرس الجمهوري" على إطار عمل طائفي، وقوامه يتألف بشكل كبير من أبناء الطائفة العلوية، وغالباً من عشيرة الكلبية التي تنتمي إليها عائلة الأسد. ولكن كان هناك بعض الاستثناءات، فأهم شخصية سنية ضمن "الحرس" كانت مناف طلاس (ابن وزير الدفاع الموثوق لدى الراحل حافظ الأسد الراحل مصطفى طلاس، والذي كان صديقاً جيداً لبشار). ولكن، تم وضع طلاس تحت الإقامة الجبرية مع بدء الاحتجاجات في سورية، ثم انشق في النهاية. وصمم حافظ الأسد "الحرس الجمهوري" ليعمل كأداة أمنية داخلية قوية، مسنوداً بـ"الفرقة المدرعة الرابعة" التابعة لماهر الأسد. وفي حين تحمي الأخيرة البوابة الجنوبية للعاصمة، فإن المنطقة الأساسية الخاضعة لنفوذ "الحرس الجمهوري" هي المحور الشمالي المتمركز حول جبل قاسيون.

وقبل عام 2011، كان "الحرس الجمهوري" فرقة جيدة العتاد، لكن حينما اندلعت الاحتجاجات تم إرسال العديد من الوحدات التابعة له، بأحجام تتراوح بين الكتيبة وحتى السرية، إلى كل أطراف البلاد، من دمشق وحتى حلب ودير الزور. وقد تم ترفيع اللواء طلال مخلوف إلى قائد لـ"الفيلق الثاني"، نظراً لأن عائلة مخلوف هي من أقوى الأطراف ضمن النخبة الحاكمة، فضلاً عن أن الفرد الأكثر ثراءً في العائلة وفي سورية، رامي مخلوف، ما يزال يقوم بدور رئيسي في مساعدة النظام على تجاوز العقوبات. ومن المرجح أن يكون تعيين طلال مخلوف مرتبطاً بخطط روسيا لإعادة هيكلة جيش النظام لمنع استيلاء أمراء الحرب المدعومين من إيران على قيادة الجيش. وعلى الرغم من أن مناصب قيادية شهدت تعديلات في جيش الأسد، إلا أن قادة آخرين احتفظوا بمناصبهم، مثل العميد سهيل الحسن، الملقب بـ"النمر"، الشخصية العسكرية المفضلة لدى روسيا، واللواء جميل الحسن، رئيس "الاستخبارات الجوية" المقرب من إيران، والذي لا يمكن استبداله بسهولة، كما يبدو، برغم تجاوزه سن التقاعد منذ زمن. تلقّى الحسن العديد من الميداليات الروسية، وقلّده رئيس الأركان الروسي فاليري غيراسيموف سيفاً رمزياً. وعندما زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قاعدة حميميم، في ديسمبر/كانون الأول 2017، التقى بالحسن شخصياً قبل بشار الأسد. وما يثير الاهتمام أيضاً أن اللواء أوس أصلان، الشخصية العسكرية البارزة، الذي أشارت إليه بعض مصادر المعارضة بأنه مرشح الكرملين لاستبدال الأسد، تم إعفاؤه من منصبه في القيادة وتعيينه كنائب للعمليات. وما يزال لديه منصب رفيع في سلسلة القيادة، ولكن لا وجود لوحدة مقاتلة تحت تصرفه مباشرة.

كذلك لم يتغير موقع ماهر الأسد كقائد لـ"الفرقة الرابعة". وبعد فترة من تحييده في هيئة الأركان العامة، تم تعيين ماهر كقائد للفرقة، في إبريل/نيسان 2018، وربما سيكون من الصعب إيجاد مكان لماهر الأسد في مرحلة ما بعد الحرب، فهو على الأرجح سيرفض الخضوع لأي سلسلة رسمية للقيادة. وتعتبر بعض التقديرات الروسية أن ماهر هو أحد القنوات الأساسية لتنفيذ المصالح الإيرانية في القيادة السورية، وفي حال شعر بوجود أي تهديد لأمنه الشخصي، فإنه يخشى من ارتدادات داخل العاصمة دمشق. وفي الواقع، عند إلقاء نظرة على فترة حكم حافظ الأسد، فإن خلاف الإخوة ليس غريباً على الصراع على السلطة في سورية، كما حصل بين الأخوين حافظ ورفعت الأسد في ثمانينيات القرن الماضي.

خلفيات الصراع
يرى متابعون أن التبدلات التي حصلت أخيراً في جيش النظام يمكن إرجاعها لأسباب عدة، من أهمها أن ذلك يُعد إحدى صور الصراع والتنافس بين موسكو وطهران بشأن شكل النفوذ ورؤية كلّ منهما لسورية المستقبل. فروسيا تحرص على دولة مركزية يشكل الجيش المنظم عماداً لها، أما إيران فقد حاولت العمل على تعزيز دور المليشيات المنتشرة في سورية وربطها مباشرة بـ"الحرس الثوري" الإيراني من دون المرور أو العودة إلى نظام الأسد. وبدأت روسيا بتحجيم هذا الأمر بدءاً بالقاعدة وصولاً إلى رأس الهرم. وقال ضابط من قوات المعارضة لموقع محلي إن الكثير من المليشيات التي كانت تتبع لإيران، وكانت لها السطوة الكبيرة على الأرض مع بدء التدخل الروسي (سبتمبر/أيلول 2015)، ليس لها دور اليوم، وبالتالي تعمل روسيا على تحجيم دور القيادات التابعة للنظام التي تميل إلى الجانب الإيراني، وفي المقابل تعيين من يدينون لها بالولاء، خصوصاً أن معظم التدريبات والدورات العسكرية التأهيلية لعناصر جيش النظام كانت تتم في موسكو، بسبب التسليح الروسي لجيش النظام، إضافة إلى سعي موسكو إلى نزع الصلاحيات والميزات الممنوحة لبعض وحدات النظام، كالفرقة الرابعة التي تعمل على تحويلها إلى فرقة عادية مثل بقية وحدات الجيش.

صدامات على الأرض

على الأرض، تقع بين الفينة والأخرى صدامات بين القوات الموالية لكل جانب، ما يسفر أحياناً عن قتلى وجرحى من الطرفين. وأحدث هذه الصدامات وقعت في 19 إبريل/نيسان الماضي في محافظة حلب، إذ ذكرت وكالة "الأناضول" ومواقع سورية معارضة أن اشتباكات وقعت في محيط مطار حلب الدولي الواقع شرقي المدينة، وذلك بعد أن طالبت القوات الروسية "الحرس الثوري" ومجموعات تابعة له بإخلاء المطار. ولم تتوقف الاشتباكات إلا بعد أن حلّقت طائرة روسية حربية في سماء المنطقة. كما سقط في اليوم نفسه عدد من القتلى والجرحى في اشتباكات بين الطرفين، في محافظة دير الزور شرقي البلاد، وذلك بعد أن أوقف حاجز لعناصر "الحرس الثوري" موكباً للشرطة العسكرية الروسية في مدينة الميادين، ما أدى إلى تلاسن تحوّل إلى اشتباكات، أسفرت عن وقوع قتيلين في صفوف "الحرس الثوري" وجرح أربعة عناصر من الشرطة العسكرية الروسية، بحسب "الأناضول". وكان حي الحمدانية في مدينة حلب شهد قبل ذلك اشتباكات بين مسلحين موالين لروسيا وآخرين تابعين لمليشيات ممولة من إيران، استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى من الطرفين ومن المدنيين.

وأسفرت المواجهات بين الطرفين في حلب ومحيطها عن تقاسم جديد للنفوذ، إذ فرضت مليشيات تابعة إلى "الحرس الثوري" سطوتها على مطار حلب الدولي والمناطق المحيطة بمركز المدينة ومنطقة شمال شرق حلب والحيدرية وحي الخالدية وجمعية الزهراء. في المقابل، تسيطر المليشيات المدعومة من روسيا على حلب الغربية وجزء من حلب الشرقية ومناطق المعادي وباب النيرب والفردوس والصالحين، ما يعني أن طهران تمكنت من الحفاظ على نفوذ قوي حتى الآن في حلب ومحيطها. وجاء هذا التوتر في حلب امتداداً للاشتباكات التي جرت سابقاً في ريف حماة، إذ سيطر "الفيلق الخامس" التابع لقوات النظام، والمدعوم من روسيا على جبهات ريف حماة، مبعداً المليشيات الإيرانية و"الفرقة الرابعة"، الموالية لطهران، ما أدى إلى انتقال الصراع إلى مدينة حلب بسبب أهميتها الكبيرة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.

وعملت روسيا، منذ مطلع العام الحالي، على استقطاب "لواء القدس" الذي كان يوالي طهران، وضمت إلى صفوفه مئات العناصر الجدد الذين تم تدريبهم في معسكر حندرات شمالي المدينة، والذي أنشأته القوات الروسية بالقرب من نقطة المراقبة الروسية الجديدة في تلة حندرات. وقال خبراء عسكريون إن موسكو تسعى إلى الاعتماد على "لواء القدس" في المنطقة ليكون ذراعاً عسكرية لها في مواجهة المليشيات التي ترعاها طهران، حتى لا تزج بعناصر الشرطة العسكرية الروسية مباشرة في مثل هذه المواجهات. كما تسعى روسيا لأن يشارك "لواء القدس" إلى جانب "الفيلق الخامس" في حماية حدود المنطقة العازلة التي اتفق عليها الجانبان التركي والروسي ضمن اتفاق سوتشي، والتي تمتد على أجزاء من محافظات حلب وإدلب وحماة واللاذقية، إضافة إلى دوره الأمني داخل مدينة حلب.

وفي الجنوب السوري، تعيش محافظة درعا، التي استعادت قوات النظام السوري، منتصف العام الماضي، السيطرة عليها، حالة من محاولات الاستقطاب الروسي – الإيراني، تصل إلى حد الاغتيال والاعتقال ومصادرة الأملاك، فضلاً عن الإغراءات المادية. وكشفت مصادر إعلامية أن القوات الروسية في سورية استحدثت معتقلات سرية داخل سجون النظام في دمشق، بهدف معاقبة الأذرع الإيرانية العاملة في قوات النظام من ضباط ومجندين.

ماذا تريد روسيا؟
تستند استراتيجية القوات التابعة لموسكو على ركيزة رئيسية، هي تحقيق أهداف التدخل الروسي، وإضعاف أي نفوذ محلي أو إقليمي أو دولي في سورية، بما في ذلك نفوذ إيران. ومن الأهداف التي تعمل عليها القوات الروسية عدم تمكين نظام الأسد من تثبيت قبضته على السلطة من خلال خلق منافسين له، مثل الضابط سهيل الحسن، والسيطرة الفعلية على الساحل السوري مع موانئه، من خلال قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس العسكريتين، والتحكم في المناطق الحيوية الخاضعة لنفوذ الأسد، بما فيها المطارات والمنشآت النفطية والغازية، والسيطرة على المنافذ الحدودية البرية، والمعابر الرابطة ما بين مناطق نظام الأسد والمناطق الأخرى الخارجة عن سيطرته، والتغلغل في الأجهزة الأمنية، وربطها بقاعدة حميميم، فضلاً عن محاربة قوى المعارضة السورية المسلحة.

بشكل عام، تمكنت روسيا من تكوين تشكيلات مسلحة في مناطق النفوذ الإيراني، في الجنوب السوري وحماة واللاذقية والبادية، وعلى امتداد واسع من الضفة اليمنى لنهر الفرات، وصولاً إلى الحسكة، لتحقيق أهدافها وحماية مصالحها، بينما تواجه إيران معارضة إقليمية ودولية لوجودها في سورية. ويرى متابعون أن الروس يعملون باتجاهين لمواجهة النفوذ الإيراني في سورية، إذ إن الهدف الأول هو شراء ولاءات الضباط المتنفذين في جيش النظام وبناء جسم عسكري يتم تجهيزه بأحدث أنواع الأسلحة الروسية، ومحاولة جعله يسيطر على مناطق واسعة من الأرض السورية من أجل ضمان الجغرافيا لصالحهم. والهدف الثاني هو إضعاف المجموعات الموالية لإيران، ومنها "الدفاع الوطني" و"الفرقة الرابعة" والمليشيات، من خلال الضغط على الأسد لتفكيك المليشيات الخارجة عن نطاق الدولة وقطع رواتب عناصرها، بالإضافة إلى طردهم من مناطق تواجد المليشيات الموالية لروسيا، وأكبر مثال على ذلك ما جرى في سهل الغاب من طرد قوات "الفرقة الرابعة" من قبل سهيل الحسن المحسوب على الروس.

أهداف إيران

وبالنسبة لإيران، فهي لم تعتمد منذ بداية تدخلها في سورية على المؤسسات الرسميّة، بل كانت تسعى إلى تدمير مؤسّسات النظام، والعمل من خارجها. واعتمدت طهران في استراتيجيتها على تغييب مظاهر الدولة وإحلال مليشيات موالية لها في المنطقة، لتضمن السيطرة الكاملة، فانتشرت المليشيات التي حاول عناصرها فرض سلطاتهم وقراراتهم على كلّ هيئات الدولة ومؤسّساتها، حتى وصلت الحال إلى هروب عناصر الشرطة من مواجهة عناصر المليشيات.

ومنذ دخول القوات الروسيّة الأراضي السوريّة، اختفت معظم الفصائل المسلّحة التي كانت تملأ الساحل السوري. إذ قام الروس بحلّ الجزء الأكبر من المليشيات الصغيرة، والتي يصعب ضبطها، مثل "جمعيّة البستان" وأخرى تابعة إلى رجال الأعمال، وأصبح عناصرها مطاردين من قبل أجهزة الدولة. لكن البعض منها استطاع التكيف مع المرحلة، وازدادت صلاحياته، من حيث القدرة على استيعاب الفارّين، وترتيب أوضاعهم. يعود ذلك، بالدرجة الأولى، إلى رغبة الروس في استثمار هذه المليشيات، إذ قاموا باستمالة قادتها، ليعملوا تدريجيّاً تحت الأمر الواقع الروسي. فالقوات الروسية بحاجة إلى مليشيات منظمة توكل إليها مهمات الحماية، أو رغبة في المحافظة على كيانات موازية للجيش تساهم في تأجيج القلق، وتتنافس فيما بينها للحصول على رضا القوة العظمى.

حسابات النظام واختياراته
والوجه الآخر الذي تكشفه مواجهات كهذه ليس الخلاف الروسي الإيراني فقط، وإنما حقيقة تشظّي النظام إلى مراكز قوى عدة، موالية لموسكو أو طهران. وتباعاً بدأت التمايزات والحدود تظهر بين تلك القوى التي لم يلبث نفوذها أن نما باطراد بعد نجاحها في تنفيذ المهام الموكلة إليها، سواء في استعادة معظم المناطق التي كانت تسيطر عليها قوى المعارضة المسلّحة، أو بالالتزام فعلياً بما تمليه عليها مرجعياتها، الإيرانية أو الروسية، ومن ثمّ سعي كل فريق إلى توسيع نطاق نفوذه وتثبيته على حساب الفريق الآخر. لكن كل هذه التطورات لا تعني بالضرورة فقدان بشار الأسد سلطته بشكل نهائي، أو أنّه قد جرد تماماً من أية قوة، لأنّ هناك فئات غير قليلة ما تزال توالي الأسد شخصياً، سواء ضمن ما تبقى من التشكيلات العسكرية النظامية أو في صفوف كبار القادة الأمنيين ممن لم يسبحوا بعد في الفلك الروسي أو الإيراني. واعتماداً على هؤلاء، يحاول بشار الأسد الاستفادة من تصاعد حالة الانقسام والتنافس الروسي – الإيراني في سورية، ويسعى قدر المستطاع إلى المناورة بينهما بما تبقى له من دور أو سلطة تتيح له اللعب على خيوط المصالح المتناقضة بين الجانبين.