صراع "إخوة المنهج" في إدلب: تنافس على النفوذ والمصالح

25 يونيو 2020
"تحرير الشام" أكثر عدة وعدداً (عمر حج قدور/فرانس برس)
+ الخط -

تتكثف الجهود لمحاصرة اقتتال "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) ومجموعات متشددة أعلنت أخيراً عن اتحادها في غرفة عمليات واحدة، وهو ما اعتبرته الهيئة شقاً للصف في الشمال الغربي من سورية، بينما تبدو الهيئة ماضية في تقليص دور هذه المجموعات، التي يتزعم أغلبها أشخاص كانوا قياديين فيها، وانشقوا عنها اعتراضاً على "تعامل مرن" منها حيال التفاهمات التركية الروسية حول إدلب، خصوصاً لجهة نشر آلاف الجنود الأتراك في المحافظة، والموافقة على فتح الطريق الدولي "أم 4" الذي يربط ساحل البلاد بشمالها.

وأبدت الفصائل المتشددة المنضوية في غرفة عمليات "فاثبتوا" استعدادها لوقف إطلاق النار مع "تحرير الشام"، و"الاحتكام للشرع، استجابة لأمر الله وحقناً لدماء المسلمين"، بحسب نص البيان الذي أصدرته هذه الفصائل مساء الأربعاء الماضي، استجابة لدعوات من "شرعيين" و"منظرين" في تنظيمات تتبنى فكر السلفية الجهادية، وتنتشر في الشمال الغربي من سورية. وكانت اشتباكات قد اندلعت بين فصائل الغرفة المذكورة و"تحرير الشام" في ريف إدلب الغربي، عقب محاولة الهيئة اقتحام أحد مقار تلك الجماعات، ما أدى إلى سيطرة هذه الفصائل على حاجز في اليعقوبية بالقرب من مدينة جسر الشغور، ونشر حواجز جديدة في منطقة عرب سعيد.

وجاءت الاشتباكات بعد يومين من اعتقال "تحرير الشام" قياديين بارزين متشددين في غرفة عمليات "فاثبتوا"، هما أبو صلاح الأوزبكي، وجمال زينية، الملقب بأبو مالك التلي الذي يتزعم تنظيم "لواء المقاتلين الأنصار". وكان التلي، وهو قيادي منشق عن "تحرير الشام"، أعلن مع قادة تنظيمات متطرفة أخرى أخيراً، تشكيل غرفة عمليات جديدة في الشمال الغربي من سورية حملت عنوان "فاثبتوا"، ضمت خمسة فصائل، هي "تنسيقية الجهاد"، "لواء المقاتلين الأنصار"، جماعة "أنصار الدين"، جماعة "أنصار الإسلام"، وتنظيم "حراس الدين".

واعتبرت "تحرير الشام" تشكيل هذه الغرفة محاولة لـ"إضعاف الصف وتمزيق الممزق"، لتُصدر بعد ذلك تعميماً منعت من خلاله أعضاء الهيئة (قادة وجنداً) ما سمته بـ"مفارقة الجماعة قبل مراجعة لجنة المتابعة والإشراف العليا" في الهيئة. ونشر زعيم تنظيم "تنسيقية الجهاد" القيادي السابق في "تحرير الشام" أبو العبد أشداء، بياناً عبر قناته في "تلغرام" أكد فيه أن غرفة عمليات "فاثبتوا" ترفض برمتها قتال "تحرير الشام"، مشيراً إلى أن الأخيرة قابلت الدعوة إلى إطلاق سراح المعتقلين والاحتكام إلى شرع الله بـ"التهرب، والإصرار على منطق القوة والاستكبار، الأمر الذي دفع الغرفة إلى نصب عدة حواجز في منطقة عرب سعيد كي لا تستمر حماقة الاعتقالات"، وفق قوله.

ومنذ البداية، لم ترحّب الفصائل المتشددة بالتفاهمات التركية الروسية المتعددة، منذ بدء مسار أستانة في العام 2017، حيث تعتبر الروس "محتلين" وجب قتالهم، بينما تعاملت "تحرير الشام" بمرونة مع هذه التفاهمات، خصوصاً اتفاق موسكو المبرم في مارس/آذار الماضي، والذي نص على وقف إطلاق النار في مقابل فتح الطريق الدولي "أم 4"، الذي يصل الساحل السوري بمدينة حلب كبرى مدن الشمال. ويُنظر إلى التنظيمات المتشددة في الشمال الغربي من سورية على أنها "إخوة منهج" واحد حيال العديد من القضايا، لكن "تحرير الشام" تعتبر نفسها الفصيل الأكبر، وتنتظر من باقي التنظيمات التي تدور في فلك تنظيم "القاعدة" الالتزام بما تقرره.



ودفعت محاولات الهيئة تعويم نفسها، شعبياً وسياسياً، استعداداً لمرحلة مقبلة ربما تشهد حلولاً سياسية، العديد من الشخصيات التي لم يرق لها موقف متزعم الهيئة أبو محمد الجولاني إلى الخروج "عن الطاعة"، وهو ما قد يدفع إلى احتراب على نطاق واسع في حال اختارت هذه المجموعات المضي في طريق المواجهة. ورأى عباس شريفة، وهو متخصص في الفكر الإسلامي وشؤون الجماعات الإسلامية، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الصراع الآن بين "تحرير الشام" وفصائل "فاثبتوا" هو "صراع على النفوذ والسيطرة، أي صراع مصالح"، مضيفاً أن الأيديولوجيا حاضرة في هذا الصراع بلا شك، لكن الجولاني لديه خوف من هذه الغرفة التي تستقطب مجموعات تنتمي إلى فكر تنظيم "القاعدة" تدعو إلى استمرار الجهاد وعدم الدخول في التفاهمات الدولية. وأضاف "مواقف هذه المجموعات فيها مزايدة على مواقف الجولاني والمواقف السياسية لهيئة تحرير الشام التي دخلت في هذه التفاهمات والتزمت بوقف إطلاق النار".

وأشار إلى "أن هناك تخوفاً من تسرب عناصر الهيئة المقتنعين باستمرارية القتال إلى غرفة العمليات الجديدة، كما فعل أبو مالك التلي"، مضيفاً أن التلي لديه مقاتلون من أهل منطقة القلمون، ولديه كتلة مالية قوية، وكاريزما قيادية، وهو ما يشكل خطراً على الجولاني، الذي لجأ إلى ضربة استباقية كي لا تكبر هذه الغرفة للدرجة التي يصعب فيها التهامها. ورأى شريفة أن الجولاني لا يهدف إلى القضاء على هذه الغرفة "بل إضعاف هذه الكتلة"، مشيراً إلى أن موازين الصراع بين الطرفين "مختلة"، مضيفاً أن "هيئة تحرير الشام أكثر عدة وعدداً، ولديها سلاح ثقيل وقدرة على التحكم، إضافة إلى كونها قوة اقتصادية وأمنية في محافظة إدلب". ومضى بالقول "في المقابل، لدى مجموعات غرفة عمليات فاثبتوا لديها مقاتلون نوعيون قادرون على مقاتلة هيئة تحرير الشام تحت مبررات أيديولوجية وفتاوى شرعية، إضافة إلى أن هناك شكاً في قدرة الجولاني على حشد كل الهيئة لقتال هذه المجموعات".

وحول مآلات هذا الصراع، قال شريفة: هناك 3 سيناريوهات ممكنة، الأول هو القضاء على هذه الغرفة، ومن ثم تتحوّل هذه المجموعات إلى خلايا نائمة من أجل إنهاك "تحرير الشام"، والثاني هو المصالحة والعودة إلى ما قبل الاقتتال بحيث يسلّم التلي الكتلة المالية التي لديه، ويعود إلى صفوف الهيئة، والسيناريو الثالث هو توزع السيطرة الجغرافية، بحيث تسيطر مجموعات غرفة عمليات "فاثبتوا" على ريف إدلب الغربي في جسر الشغور وأرمناز وعرب سعيد، وتستعصي به، ومن ثم تنشئ حدودا جغرافية فاصلة بين الطرفين.

إلى ذلك، لم يطف إلى السطح بعد موقف أنقرة التي تنشر أكثر من 20 ألف جندي في الشمال الغربي من سورية، حيال ما يجري في محافظة إدلب من تطورات، ربما تفضي إلى مواجهة عسكرية بينية في صفوف الهيئة والمجموعات المتشددة في غرفة العمليات الجديدة. وفي هذا الصدد، أشار الباحث في الشأن التركي والعلاقات الدولية طه عودة أوغلو إلى أن أنقرة "تراقب عن كثب التوتر الكبير بين الفصائل الجهادية على الساحة السورية". وأضاف، في حديث مع "العربي الجديد": "تحرير الشام أصبحت أقرب من أي وقت مضى إلى التفاهمات الدولية (خفض التصعيد) في إدلب، وهذا بدوره يخدم أنقرة التي تحاول التخلص من الضغوط المكثفة من الروس". وتابع "رغم الهدوء النسبي في إدلب، منذ التوقيع على اتفاق موسكو في 5 مارس/آذار الماضي إلا أن الموقف يبدو مرشحاً لمزيد من التصعيد بين الجماعات الجهادية على الساحة السورية، وهذا بدوره يخفف الضغط عن أنقرة، التي كانت تتهم دائماً بعرقلة عملية التخلص من الجماعات المتشددة في إدلب". وأعرب عن اعتقاده بأن "حملات التصفية في صفوف الجماعات الجهادية ستستمر خلال الأيام المقبلة"، معتبراً ذلك "يصب في صالح أنقرة". وقال "بقاء هيئة تحرير الشام الأكثر اعتدالاً من بين المنظمات، ورقة تركية تلوح بها في وجه الروس ضد قوات سورية الديمقراطية (قسد) في منطقة شرق الفرات".