صدر قديماً: علي الوردي و"شخصية الفرد العراقي"

27 يناير 2018
(علي الوردي في بورتريه لعماد حجّاج، العربي الجديد)
+ الخط -

تفرّد عالم الاجتماع العراقي علي الوردي (1913- 1995) بتحليل طبيعة وتركيبة المجتمع العراقي الحديث، فكان رائداً في هذا المجال بفعل عاملين؛ الأول الصراحة والجرأة النقدية، والثاني اعتماده على منهجية علمية من سمات علم الاجتماع الحديث.

في هذا السياق، أنتج كتاب "طبيعة المجتمع العراقي" (1965)، ثم "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" (1969) في ستة مجلدات متتابعة مع ملحقين، كدراسات تمهيدية تفتح الطريق أمام دراسة المجتمع العربي الأكبر. وعبّر عن نيته هذه حين دعا خلال محاضرات له في "معهد الدراسات العربية العالية" في القاهرة إلى "إنشاء علم اجتماع عربي" يستمد جذوره من نظرية ابن خلدون، ويستعين بها في دراسة الظواهر الاجتماعية في البلاد العربية.

ولكن الكتاب البذرة أو المقدمة التي تقف في أساس هذا المشروع كانت محاضرة له في العام 1951 عنوانها "شخصية الفرد العراقي: بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث"، لم يلبث أن أصدرها في كتاب مع أنها كُتبت كما قال "على أساس الاسترسال الفكري وتداعي الخواطر.. ولا تحتوي على فصول منظمة أو حلقات متتابعة كل حلقة تؤدي إلى ما يليها، على حسب ما يستوجبه التسلسل المنطقي".

إلا أن هذا الاسترسال الفكري وتداعي الخواطر لم يبقَ كذلك، بل اتخذ في ما بعد شكل الدراسة المنهجية القائمة على الجمع بين التحليل الاجتماعي والسرد التاريخي. وهذا الأخير تحوّل على يديه، وخاصة في مجلدات اللمحات، إلى سرد يختلف عن السرد التاريخي المعتاد، فهو لا يهتم بأحداث الماضي لذاتها، على منوال ما يفعل المؤرخون، بل يهتم بالدرجة الأولى بما تنطوي عليه الأحداث من دلالة فكرية واجتماعية.

إضافة إلى هذا، تفرّدت دراساته بنوعية مصادره، فهي كما لخّصها في مقدمة كتابه الموسّع عن طبيعة المجتمع العراقي، الرسائل العلمية المقدمة لنيل شهادة دكتوراه، التي تبحث في المجتمع العراقي على وجه من الوجوه، وتقارير الطلاب التي كان يطلبها في موضوع المجتمع العراقي كل عام، والندوة التلفازية التي كان يقدمها في محطة تلفزة بغداد في العام 1960 تحت عنوان "أنت تسأل ونحن نناقش"، وملاحظاته الشخصية التي كان يجمعها خلال جولاته في نواحي المجتمع العراقي، والإصغاء إلى أحاديث العامة، ولا سيما المعمّرين منهم.

واللافت للنظر أن سلطات تلك الأيام أوقفت ندوته التلفازية التي كانت تزوّده برسائل يسأله أصحابها حول بعض مشاكلهم الاجتماعية، وكانت ذات فائدة غير قليلة له واعتبرها مرجعاً لدراسة المجتمع العراقي، كما صادرت عدداً من كتبه ومنعت نشرها.

ينقسم كتاب "شخصية الفرد العراقي" إلى قسمين، يتناول القسم الأول الشخصية البشرية بشكل عام، ويبحث القسم الثاني الكيفية التي تتشكل فيها شخصية الفرد العراقي. وبرّر هذا التقسيم بالقول: "وجدتُ أنني غير قادر على دراسة الشخصية العراقية ما لم أدرس قبل ذلك الشخصية البشرية بشيء كثير من التفصيل، بالإضافة إلى ذلك، موضوع الشخصية بشكل عام لم يبحث في اللغة العربية بحثاً وافياً؛ لم تبحث إلا من ناحيتها الفردية.. ولم يعن بالناحية الاجتماعية منها إلا قليلاً، ولا ينبغي أن ننسى أن للشخصية مفهوماً في علم النفس يختلف عن مفهومها في علم الاجتماع أو علم الحضارة".

وبعد عرض لأهم ملامح مفاهيم الشخصية في العصور القديمة، وفي عصر النهضة الأوروبية، ما اعتمد منها على أساس أن الإنسان حر في صنع شخصيته، أو ما اعتمد على أن الشخصية أداة طيّعة بيد أخلاط البدن الأربعة، الدم والبلغم والصفراء والسوداء، يمرّ بمنتصف القرن التاسع عشر حيث ظهرت نظرية الغدد الصماء التي عنت أن لإفرازات هذه الغدد، زيادة أو نقصاناً، دورٌ في رسم ملامح الشخصية، ولكن العلماء لم يمنحوا الغدد الدور الحاسم لأنها كثيراً ما تتفاعل مع عوامل المحيط الاجتماعي وتتنوّع بأنواعه. وهكذا ارتفع وزن العوامل الاجتماعية، وصارت الشخصية نتاج تفاعل متواصل بين الدوافع الطبيعية في الإنسان من جهة، والقواعد التي يفرضها المجتمع من ناحية أخرى.

وبانتقال الوردي إلى دراسة ما في المجتمع العراقي من خصائص تجعله ينتج نمطاً خاصاً من شخصية عدد كبير من أفراده، لم يجد كما يقول في طريقه علامة ترشده، وكأنه بذلك يشق طريقاً جديداً لم تطأه قدم من قبل، فاعتبر دراسته محاولةً القصدُ منها تحفيز غيره على دراسة هذا الموضوع المهم، وإثارة بعضهم لكي ينزل من أبراجه العاجية، فيتغلغل في المجتمع العراقي باحثاً منقباً.

ولهذا كان من الطبيعي أن يلجأ إلى ملاحظاته الشخصية، وعلى رأسها ملاحظته أن في شخصية الفرد العراقي شيئاً من الازدواج، ووجد الكثير من القرائن التي تؤيد هذا. وفي تعليله لهذه الازدواجية، مثل الهيام بالمثل العليا ولكن الانحراف عنها في واقع حياته، يوجه الانتباه إلى ثلاث نواحٍ؛ الناحية الحضارية، والناحية الاجتماعية، والناحية النفسية.

في الناحية الأولى يرى أن المجتمع العراقي يقع على هامش البداوة والمدنية معاً، فهو مهد لمدنية تعتبر اليوم من أقدم المدنيات البشرية، ولكنه من جانب آخر واقع على حافة صحراء تمدّه وتمدّ الأقطار المجاورة بأمواج متوالية من البدو حيناً بعد حين. وبسبب هذه الواقعة الحضارية نجد في العراق منذ بدء المدنية حضارتين تتصارعان، حضارة بدوية محاربة من ناحية وحضارة زراعية خاضعة من ناحية أخرى. ولهذا الصدام المسمى في الأنثروبولوجيا "صدام الثقافات" أثر بالغ في شخصية الفرد، فهو مضطر إلى اقتباس نوعين من القيم متضاربين.

من دلائل هذا التضارب أن العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي يسيطر فيه قانونان، قانون عشائري وقانون مدني، وبين هذين يترنح العراق مزدوجاً لا يدري إلى أين يتجه، أو هو بتعبير الوردي "يرقص رقصة عشائرية ويغني أغاني مدنية، وخلاصة الأمر نشاز".

في الناحية الاجتماعية يكتشف عاملاً آخر يؤدي إلى الازدواج في شخصية الفرد، وهو ما يسمّيه علماء الاجتماع "الجماعة الأولية"، أي البوتقة التي تنصهر فيها شخصية الفرد وتُصبّ في قوالبها النهائية، أي الأسرة. وعلى الأسرة العراقية يلاحظ ظاهرة "التجزئة"، وتعني انقساماً في أسلوب الحياة بين الرجل والمرأة والطفل، حيث للرجل عالمه، وللمرأة عالمها وكذلك الطفل.

ولهذا يجد أن البيت العراقي أصبح عالماً قائماً بذاته، له قيمه الخاصة به المختلفة عن قيم وقواعد العالم الرجالي، ويساعد هذا على نمو الازدواج في شخصيتي الرجل والمرأة.
وينضم العامل النفسي إلى العامل الاجتماعي كسبب ثالث من أسباب الازدواج. ويعني به نوعاً من الشقاء ينهش في نفوس بعض الأفراد، ينشأ لأنه رسم لنفسه مستوى شاهقاً رفيعاً فلا يستطيع أن يقنع بما وصل إليه، وقد يصبح عصابياً، ودائم السخط على المجتمع.

هذه الظاهرة النفسية امتداد لنوع من معاملة الوالدين لطفلهما حين يتطلبان منه الكمال في كل شيء، في أعماله وسلوكه وكلامه، ويحاسبانه على كل هفوة، وبفعل هذه التربية المتشددة والفصل بين الجنسين ينشأ الكبت، وتنشأ الشخصية المؤدّبة الخاضعة ولكن الثائرة المعتدية في الوقت نفسه.

ولا ينسى الوردي الإشارة إلى أثر الفرق بين اللغة الدارجة واللغة الفصحى، بين لغة الحياة اليومية ولغة الخطابة والكتابة، وكأن الإنسان يفكر بأسلوبين مختلفين، قبل أن يصل إلى خلاصة مفادها أن الفرد العراقي مبتلى بداءٍ دفين هو داء الشخصية المزدوجة.

ويحصر العلاج كما يراه في ثلاثة أنواع من الفعل: أولاً بإزالة الحجاب عن المرأة، ورفع مستواها وإدخالها في عالم الرجل لكي تتوحد القيم، وثانياً بتقليل الفرق بين اللغة الدارجة واللغة الفصحى، أو بتعبيره "تحدثوا كما تخطبون واخطبوا كما تتحدثون"، وأخيراً بتهيئة ملاعب ورياض أطفال لكي يتكيفوا فيها للحياة الصالحة تحت إشراف مرشدين أكفاء، وعلموهم أن القوة التي تحكم العالم اليوم ليست قوة فرد إزاء فرد، أو سيف إزاء سيف، بل هي قوة العلم والصناعة والنظام، فمن فشل في هذه آن له أن يفشل في معترك الحياة، رغم ادعائه بالحق وتظاهره بالمثل العليا.

دلالات
المساهمون