كان كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين (1865-1908)، الصادر عام 1899، بمثابة الشرارة التي اندلعت مَشرقاً فأضاءت مغرباً، وشجَّعت مفكريه على إعلان معركة السفور، والمطالبة بإصلاح وضعية المرأة لإدماجها في الفضاء العام، بعد أن حُجِبَت عنه لقرونٍ.
ومن آثار تلك الشرارة في تونس، الواقعة حينها تحت الاستعمار الفرنسي، أن ألَّف الطاهر الحداد (1899-1935) الزيتونيّ التكوين، كتابًا أسماه: "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" (1930). وفي قِسمَيْهِ التشريعي والاجتماعي، دَعا إلى تحرير المرأة التونسية لتكون رفيقةَ درب الرجل في بناء الأمة، والكفاح لنيل الاستقلالية والتمتع بالحقوق الأساسية، كالتعليم والصحة والشغل والانتخاب.
وعلى مدى مائتَيْ صفحة، بيَّنَ هذا المثقف الجريءُ، بمنطق أصول الفقه ونصاعة الملاحظة الاجتماعية، أنَّ الدين الإسلامي حَبا المرأةَ بكامل حقوقها، وأنَّ المجتمع الذكوري هو الذي حَرمها إياها تعسفاً. فكان كتابه مرافعة شديدة أبرزَ فيها خطورة التعارض بين تشوُّف الإسلام إلى تسوية المرأة بالرجل، ورفض المجتمعات المتخلفة لهذا المقصد الديني، مكابرةً منها. وساق في مرافعته سلسلةً من الحجج، استقاها من ينابيع تكوينه الديني والنضالي، إذ كان من مؤسسي أول حركة نقابية في تونس.
اعتمد هذا المفكر أولاً على نصوص القرآن والحديث إلى جانب فتاوى شيوخ جامع الزيتونة، وبيَّن أنها تشيرُ إلى واجب المساواة والتكامل بين الجنسيْن. وأما ما ورد من عباراتٍ يوحي ظاهرها بتفوق الرجال، فيجب أن يؤخذ على محمل التأويل: إذ بالنظر إلى ما كانت عليه المرأة في حقبة "الجاهلية"، تُعتبر تشريعات الإسلام بداية إيجابية، لا غايةً في حدّ ذاتها، وعلى المسلمين مواصلتها حتى تَتَحَقق مقاصد الدين الخمسة.
وضرب لذلك مثلَ تعدّد الزوجات، حيث قرر الإسلام حصرَ العدد في أربعٍ، بعد أن كان مطلقاً، ثمَّ قَيَّدَ الأربع بشرط العدل، وبما أنَّه يكاد يستحيل تحقيق هذا الشرط، اعتبر أنَّ الإسلام يمنع هذا التعدّد - كما هو جليٌّ في روح القرآن ونصه - ولا يقرّه إلا بشروط استثنائية.
واستفاد الرجل من معارفه في أصول الفقه، المتعلّقة بدلالة الخطاب تخصيصاً وتعميماً، ومناط الأحكام فيها، واطراد النسخ... للمناداة بمنع الطلاق اللفظي وجعله قضائياً، وفرض التراضي بين الزوجَيْن، ودفع غرامة لطالب التطليق، وأهليّة المرأة لتزويج نفسها، وغيرها من المسائل التي صاغها حسب مقولات الفقه المقاصدي.
وهذا الفنُّ من أهم المداخل لفهم فكر الطاهر الحدّاد، ومنه تمييزه بين الجوهر والعَرض في تعاليم الدين، وبين عقائده وشعائره الثابتة وتشريعاته المتغيرة مع تحوّل الوقائع. وهو يستعيد هنا فكرة دقيقة مفادها أنَّ التطور ميسمٌ قرآني طبعَ نزول الكتاب، وهو الذي سَنَّه طريقةً في فرض التعاليم عبر التدرج من خلال الناسخ والمنسوخ، سيراً للبشرية نحو الأكمل. وقدّم لهذا مثل العبودية ونفور الشَّرع منها، وتشوّفه للحرية عبر الحث على عتق العبيد.
واعتمد ثالثاً الحجج الاجتماعية التي خصص لها القسم الثاني من الكتاب، متطرقاً إلى واجب تثقيف الفتاة، ومشاكل الزواج المفروض، والسن الأدنى للاقتران، وعواقب الطلاق اللفظي، وضياع الأطفال وانحرافهم بسببه، كما توسع في قضية الحجاب والسفور، مؤكداً على دور التنشئة، فإن كانت المرأة جاهلةً عجزت عن توفير أدنى تربية للأبناء.
لم يفقد فكر الطاهر الحداد ذرّةً من راهنيته على مدى التسعين سنةً الماضية، وظلَّ يُستعاد في أحلك لحظات التصارع بين الحداثيين والمحافظين، رمزاً لتحرّر المرأة ونضالها، وحفاظًا على ما حققته من مكاسب اجتماعية (بعضها لم يتحقق إلى الآن في بعض البلدان العربية)، مثل حق تقلّد أسمى الوظائف والمساواة والأهلية الكاملة. وقد اعتمد فكرَه الرئيس السابق الحبيب بورقيبة (1903-2000)، لاستصدار مجلة الأحوال الشخصية في 1956-1957. كما استعيد اسمه ناصعاً في تظاهرات ربيع تونس عام 2011.
بيد أنَّ الاندهاش لا ينقضي من عنف الردود التي واجهت كتابَه، وشراسة التعقيب عليه في الصحافة والقضاء، حتى فُصل الرجل من كلّ الدوائر، ومات محاصراً. وأبرز الردود كان كتاب "الحِداد على امرأة الحَدَّاد" (1931) لمحمد الصالح بن مراد، و"سيف الحق على مَن لا يَرى الحق" لعمر البَرِّي المدني و"شمول الأحكام الشرعية لأول الأمة وآخرها" لمحمد البشير النيفر. وقد تفسّر هذه الضراوة بالاقتران الحتمي بين تطور المرأة العربية، وهيمنة النموذج الغربي الليبرالي، بين تحرّرها وانهيار المجتمع التقليدي، وعماده أسرة يَحكمها الأب - الزوج - السيِّد، واعتبار السفور باب الانحدار الأخلاقي،... وجلّها تَخوفات ذكورية.
________________________________________
رحل الطاهر الحدّاد في سنّ مبكرة لم تتعدَّ الـ 36 عاماً، وقد قضى السنوات الخمس التي فصلت صدور كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، وتاريخ وفاته محارَباً ومقصياً. كان من مؤسسي نقابة عماليّة: "جامعة عموم العملة التونسيّين" سنة 1924، ودوّن تجربته فيها في كتاب "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" (1927). كما كتب "التعليم الإسلامي وحركة الإصلاح في جامع الزيتونة" الذي صدر بعد رحيله.