صدر قديماً: إبراهيم مصطفى و"إحياء النحو"

08 يناير 2018
كمال بُلاطه/ فلسطين
+ الخط -
يُعدّ النحو من أعقد مسائل تعلّم العربية وتعليمها، لأبناء العرب الناشئين عليها، كما للناطقين بغيرها. ولم يخلُ تاريخ الضاد، منذ القديم حتى عصرنا، من لحظات فارقة انتقد فيها العلماء شكليةَ هذا العلم وجفاف مباحثه، بل وشجبوا تأثيراته السلبية في التمكّن من ناصية اللغة، حتى اعتبروه مجرّد قيود صورية لا تعكس مستوى الكفاءة اللغوية، فضلاً عن الإسهام في إنمائها وتقويتها.

أشهر تلك الكتابات ما حبَّره ابن مضاء القرطبي (1116 - 1196) في "الردّ على النُحاة"، ومن قبله ما صاغه متَّى بن يونس (توفي عام 939) في مناظرته للسيرافي (897 -979)، وما خطّه من معاصرينا شوقي ضيف (1910 - 2005).

على أنَّ أجرأ هذه المحاولات كتاب "إحياء النحو" (1938)، للمصري إبراهيم مصطفى (1888 - 1962)، بتقديم صديقه طه حسين، حيث عرف المشهد اللغوي العربي لحظة فارقة بصدور هذا الضرب غير المألوف من النقد الابستمولوجي لعلمٍ رئيس كالنحو.

يتألّف هذا الكتاب من تسعة فصول، إلى جانب المقدّمة والخاتمة، تضمّنت التذكير بحدِّ النحو، وفق ما رسمه النُحاة، سعياً للتعريف بموضوع هذا العلم النظري، وسائر اتجاهات البحث النحوي، ثم فرضياتٍ عن أصل الإعراب، ورأي المستشرقين فيه.

وتوسّع في ذكر المعاني الناتجة عن الإعراب، باعتبار "الألفاظ مغلقةً على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها"، على حد عبارة عبد القاهر الجرجاني (ت. 1078). ثم تناول العلامات الفرعية للإعراب والتوابع، وخصّص القسم الأخير للصرف من حيث هو تغيّر حركات الكلِم بتغيّر المعاني.

وقد أشار النحوي المصري، طيَّ هذه المباحث الشيّقة، إلى الخطأ المنهجي الذي لازم علم البلاغة، والذي تمثّل في اعتبار "المعاني" فرعاً منها، لا فنّاً مستقلاً بذاته، يظهر علاقات التراكيب بالسياق التواصلي، ويدرس القيم الأسلوبية الناتجة عن العدول.

كما احتوى الكتاب على نقدٍ لاذع لنظرية العامل الإعرابي التي فسّر النُحاة القدماء على ضوئها تغيّرَ أواخر الكلِم وما يطرأ عليها من حَركةٍ أو منعٍ أو بناء. وقد كان مبحث العامل من أهم أبواب التفكير عندهم، وفي ذات الآن من أبرز مظاهر الضعف، لأنه تضمّن تعليلاتٍ تستنجد بالمفاهيم المنطقية وحتى الثيولوجية التي لا صلة لها باللغة، فضلاً عن كونها تنافي المقاربة البسيطة للغة، بما هي أداة فهم وإفهامٍ.

ولذلك دعا إبراهيم مصطفى إلى إلغاء نظرية العامل لأنها عقّدت النحو وأنتجت الكثير من التقديرات والتأويلات التي لا طائل وراءها، ولا سيما تلك التي عرفت بالعوامل المحذوفة، مما دفع النُحاة إلى تمحلات لا داعي لها، كتقدير أن شبه الجملة تتعلّق بعامل محذوف.

وتضمّنت هذه الفصول انتقاداتٍ لتهافت النُحاة واضطرابهم في تحليل العديد من الظواهر اللغوية، مما جعل درسهم للسان العربي ولقواعده المعيارية غير متسق، تتوالد فيه الاختلافات والنقاشات العقيمة التي لا يمكن أن توصل إلى أي موقف مقنعٍ، يساعد على التمكّن الفعلي من أساليب البيان ووسائله.

ومن جهة أخرى، يُعدّ هذا الكتاب بحثاً معمّقاً في مظاهر التداخل بين الدال النحوي والمدلول التواصلي، أو البنية التركيبية والدلالة المقصود إيصالها؛ مقدماً بهذا التأصيل خلاصاتٍ صافية عن التعالق الصوري بين الشكل التركيبي والمضمون المعنوي. ويمكن لهذه الخلاصات، بفضل موضوعيتها وطابعها الصوري المحض، أن تكون أرضية أولى لدلائلية نحوية (Sémantique Syntaxique)، قد يعود إليها باحثو اليوم المتخصّصون في الألسنية العربية بالتطوير والتعمّق حتى يصوغوا نظرية متكاملة عن علاقة معاني النحو بالدلالات التواصلية.

وهكذا، تكتسب العودة إلى هذا التأليف أهميتها في ظل هيمنة الإطار الأوروبي المرجعي العام للغات (1989 - 1996)، الذي يعدّ حالياً المرجع الأساسي في تدريس اللغة، مع أنه يولي للنحو مكانة هامشية، لأنه يعرقل كسب المهارات التواصلية.

وفي مقابل ذلك، بدأ في أيامنا بعض الألسنيين يدعون إلى العودة لإحياء النحو، تماماً كما فعل كاتبنا قبل ثمانين عاماً، مما يعني أنَّ الإحياء برنامج معرفي - تربوي لم يتحقق بعد، وما تزال الحاجة إليه ماسّة. ولا يتمثل الإصلاح في تخفيف هذا الفن من قيوده الكلامية (من علم الكلام الديني) التي امتزجت به في عصور السكولاستيكية، وتبسيط الجهاز الإعرابي، وإنّما في توظيف النحو كأداة تساعد الناطقين بالضاد على الإبانة عن الأغراض، وتحسين التعبير في عصر العولمة اللغوية، واستحقاقات التواصل الحديث بما فيه من أفعال كلامٍ ووظائف براغماتية، لئن توسّلت بالتراكيب النحوية، فإنها تتجاوزها إلى الأثر في الواقع والفعل في العالَم. 

دلالات
المساهمون