صدر قديماً: "محيط المحيط" لـ بطرس البستاني

13 مايو 2017
رسم لبيروت في القرن التاسع عشر
+ الخط -

انقطعت صناعة المعاجم العربية، أو كادت، منذ القرن الرابع عشر، برحيل ابن مَنظور (1232-1311) مؤلف "لِسان العَرب"، والفيروزآبادي (1329- 1414) صاحب "القاموس المُحيط". ولعلَّ التأريخ لتطوّر القواميس بذكر هذين العَلَمَيْن مُضللٌ، لأنَّ "مَتْنَهما"، على شموله، كان تلخيصاً لمادة المعاجم السابقة وإعادةً لترتيبها وتَهذيبها، بعد أن اكتمل تدوينها، أثناء القرون السابقة.

بعدهما، تباطأت وَتيرة التوليد المعجمي العربي، طيلة القرون الوسطى، ولم تستأنف إلا حين واجهَ الوعي العربي ظهور كمٍّ هائلٍ من الأشياء والمفاهيم، بُعيْد حملة نابليون بونابرت على مصر (1798)، وانطلاق التبادل الثقافي بين العرب والغرب (1826)، بالإضافة إلى التحوّلات الداخلية التي طرأت على حواضر الوطن العربي. فكان من النتائج الأولى لهذه التحوّلات المتسارعة إحياء الاستحداث المعجمي، بابتكار المئات من المصطلحات لتسمية العالَم الجديد، أشيائه ومقولاته.

وتأكدت مع الإحياء ضرورة إنجاز مُعجم مختلفٍ، يحيط بأقطار هذا المدّ الاستحداثي، فكان "مُحيط المحيط" لـ بُطرس البُستاني (1819-1883)، الذي ولد ونشأ في الدبية، من قرى الشُّوف بلبنان. وقد عُرِفَ بتبَحُّره في لغة الضاد، فضلاً عن تَمَكُّنه من السريانية والإيطالية واللاتينية ثم العبرية واليونانية. أنشأ البستاني مع ابنه سليم، صُحفًا عديدة منها: "نفير سورية" و"الجِنان"، إلى جانب "دائرة المعارف"، التي أكمل منها ستةَ مجلدات و"محيط المحيط" الذي نقدّمه. فما هي القطائع التي أحدثها في فنِّ الصناعة المعجمية؟

أول القطائع تتمثل في اعتماد البستاني الترتيب الألفبائي للمَدَاخل المعجمية وترتيبها حسب الحرف الأول من الجذر، فقد كانت جلُّ المعاجم السابقة، منذ "كتاب العين" للخَليل بن أحمد الفراهيدي (718- 786)، تنضّم المواد حسب حرفها الأخير، تيسيراً لسرد القوافي أمام الشعراء، (فنجد كلمة "صحيفة" مثلاً في باب "الفاء" وليس في باب "الصاد"). فَقَلب البستاني هذه الطريقة كليّاً، لعسرها، وأعاد هيكلة كل المَتن العربي، المبنيّ على آلاف الجذور الثلاثية والرباعية، حَسب الحرف الأول من جذرها، وأعقب كلَّ أصلٍ بعرض سائر مُشتقاته من الأفعال والأسماء.

ولئن بدت هذه الطريقة، لقارئ اليوم، بديهية، فإنها لم تكن كذلك، قبل بضع عقودٍ. فقد جهد البستاني لإثبات بنية صارمة تحصر كلَّ الفضاء الدلالي للعربية، على ضَخامته وتشعّبه، ضمن منطقٍ نظري مُحكم الانتظام، وهو ما يُعدّ إرهاصاً للتصوّر البنيوي للمُعجم، من خلال اعتماد التقابلات والعلاقات التفارقية بين الكَلِم، عبر ذكر الأضداد والمرادفات والمشتقات.

وأما ثاني "القطائع" التي أنجزها العلامة اللبناني فهي استخدام المنهج الوصفي في إثبات المفردات، تلطيفاً للرؤية المعيارية التي لم تكن تقبل إلا البدويَّ الفَصيحَ، فقد أضاف، إلى معجمه ما طرأ على اللغة العربية من الألفاظ العامية، والعلمية والمُعَرَّبة والحديثة، ضمن منظور موضوعي وصفي، يكتفي بذكر الألفاظ، دون إبداء أيِّ حكم قيمي، فكأنما تدارك بذلك ثَغرات المعاجم السابقة بإلحاق ما طرأ على اللغة من شوارد المعاني التي وَلَّدتها التغييرات الداخلية للبلاد العربية، وقد انتقلت من الطور العباسي إلى السلطنة العثمانية، فضلاً عن احتكاكها المستمرِّ بالغرب، أشيائه ومفاهيمه.

وقد عبَّر عن هذا المنحى الجديد بقوله في المقدمة: "أدْرَجنا فيه كلَّ ما قَدِرنا أن نقف عليه من مُفَرَدات اللغة وأصولِهَا وفُروعها واصطلاحات العلومِ والفُنون وكثيراً من كلام المُوَلَّدين واللغة الدارجة ورَصَّعناه بالشواهد من القرآن والحَديث والشعر وأمثال العَرَب إلى غير ذلك من الفَوائد والنَّوادر والشَّوارد ممَّا لا غنى عَنه للمُطالع وكان كلُّ ذلك سببَ تَسميته: "مُحيطُ المُحيط".

وثالث إضافات البستاني ابتكار التحديد الموسوعي للمصطلحات، الذي يغذّي التعريف اللغوي الصِّرف، فقد أدمج ما أتيحَ له من معلومات ومعارف تتصل بالمداخل، ولم يكتف بمعانيها الأصلية، ولما رأى أنَّ المادة تعاظمت خَصَّها بتأليفٍ ثانٍ: "دائرة المعارف" ليكون بذلك أوّل الموسوعيين العرب، وأول من نَقل المعاجم من اللغة إلى الثقافة، ومن الدلالة الضيقة إلى المرجع الموسوعي، كما حدّده، من بَعْدُ، السيميولوجي الإيطالي أمبرتو إيكو (1932-2016) في دلائلياته.

"محيط المحيط" لحظة فارقة في تاريخ المعاجم العربية المعاصرة، وعبره تَحَوَّل فنُّ المَعجمة من استقصاءٍ للمعاني الفصيحة، ضمن نسقها البدوي المنغلق، إلى رصد المتغيرات الدلالية الناجمة عن حيوية التحولات السياسية والمجتمعية، وإغنائها بمفاهيم العلوم الصحيحة والثقافات الأجنبية. على أنَّ المؤسف أن يظل هذا الكنز مرقوماً في طبعته الحجرية البائسة التي تعود لسنة 1870، لم تتح له إعادة الطبع والتحقيق، بما يليق بمكانته العلمية.

المساهمون