يبدأ الشاعر أحمد زكي أبو شادي (1892- 1955) كتابه "قضايا الشعر المعاصر"، الذي جُمعت فيه مقالاته وصدر عام 1956، بدفاع صريح وواضح عما كان يسمّى في أيامه "الشعر المنثور"، والذي سيتّخذ اسم "قصيدة النثر" ما إن يطّلع شاعران عربيان في بيروت؛ هما أدونيس وأنسي الحاج (1937- 2014) على كتاب الناقدة الفرنسية سوزان برنار "قصيدة النثر: من بودلير إلى الوقت الحاضر" (1959)، فيستعيران تعريفها لهذه القصيدة بكثير من الحَرفية.
ويكتب الأول مقالة "في قصيدة النثر" في مجلة "شعر" شتاء عام 1960، وينشر الثاني مجموعة "لن" مع مقدمة، ويسيء الاثنان فهم ما عنته هذه الناقدة بشرط عدم التعاقب الزمني في مسار الصور الشعرية (التزامن) فيخترعان له مصطلح "المجانية". ولتُطلق بعد ذلك الشاعرة نازك الملائكة (1923- 2007) هجمة ضارية على هذه القصيدة في كتابها الذي أعطته عنوان كتاب أبو شادي نفسه، أي "قضايا الشعر المعاصر" في عام 1962.
ليس معروفاً ما إذا كانت نازك على معرفة بمقالات أبو شادي الآنفة الذكر، وأنها كانت تردّ على دفاعه، أم أن دفاع أبو شادي لم يكن قد وصلها بعد، فصبّت هجومها فقط على ما نشرته مجلة "شعر" البيروتية، واعتبرته "بدعة غريبة"، لخّصتها بالقول إن "بعض المطابع تُصدر كتباً تضمّ بين دفاتها نثراً طبيعياً مثل أي نثر آخر، غير أنها تكتب على أغلفتها كلمة "شعر"، ويفتح القارئ تلك الكتب متوهّماً أنه سيجد فيها قصائد مثل القصائد، فيها الوزن والإيقاع والقافية، غير أنه لا يجد من ذلك شيئاً، وإنما يطالعه في الكتاب نثرٌ اعتيادي مما يقرأ في كتب النثر".
وانتهت إلى القول "وقد تبنّت مجلة "شعر" هذه الدعوة وأحدثت حولها ضجيجاً مستمراً لم تكن فيه مصلحة لا للأدب العربي ولا للغة العربية ولا للأمة العربية".
المفارقة اللافتة هي أن الأمر هذه المرّة لم يكن نزاعاً حول الشعر بين محافظين ومجدّدين كما كان قديماً، بل هو كما يكشف أبو شادي نفسه، من مكان هجرته في نيويورك التي وصلها قادماً من القاهرة في عام 1946، "نزاعٌ بين المجدّدين وحدهم".
ومن مكانه ذاك يسجّل في كتابه ما يشبه رداً استباقياً على ما ستطرحه نازك في كتابها ذاك، فهي لا تكتفي بتحديد ما هو "الشعر" فقط، بل وتتحدّث عن مصطلح الشعر الحر وكأنه من مبتكراتها، فتقول "وإنما سمّينا شعرنا الجديد بالشعر الحر لأننا نقصد كلّ كلمة في هذا المصطلح، فهو شعر لأنه موزون يخضع لعروض الخليل، ويجري على ثمانية من أوزانه، وهو حرّ لأنه ينوّع عدد تفعيلات الحشو في الشطر، خالصاً من قيود العدد الثابت في شطر الخليل".
بينما لا يضع أبو شادي، بعد التنويه بأنه هو "الذي شقّ الطريق للشعر الحر منذ عقود ثلاثة.. كما شقّ الطريق للشعر المرسل .. عبد الرحمن شكري"، فارقاً بين مفهومين للشعر "الجديد" فقط، بل يعلن تبايناً في الرؤية الثقافية بين المجدّدين، فيقول ".. إن الفن الخالد، والشعر فرع منه، هو التعبير الأصيل الخلاق عن الحق والجمال، وقصر هذا التعبير على نماذج معينة بالذات شطط في شطط، وهذا ما عرفه الغرب فأفلح، وقد عكس إيمانه هذا في متاحفه المنوّعة المتباينة، وأما في المشرق فما يزال حب التحكّم سائداً، ولا بدّ من أن يخضع الشعر لأشكال معينة وموضوعات معينة وإلا فلن يعدّ شعراً، وهذا تعسّف عجيب ليس بعده تعسّف".
يكتشف من يرجع إلى كتاب أبو شادي هذا، أن التباين الثقافي كان مداره مفاهيم مثل حرية الشاعر وطاقته الشعرية وأصالته، وهذه الأخيرة تعني عنده بوضوح كلّ ما هو ضدّ "التكرار ونهب الآثار السابقة والمعاصرة، لأن التكرار أو المحاكاة أو السرقة لا نتيجة لها إلا الهبوط بأدبنا". وكانت أعظم صفات الشعر لديه "الحرية والإبداع" وليس الانشغال "بالقلقلة الوهمية للقوافي وبالرضوخ لأحكام الخليل" كما يفعل "المتزمّتون في الشرق".
* "صدر قديماً"، زاوية جديدة في القسم الثقافي لموقع وجريدة "العربي الجديد"، تختص بتقديم قراءات في كتب قديمة صدرت باللغة العربية وما زالت تنبض بالراهنية.