"هذه صحف لم تُكتَب للعلماء ولا للمؤرّخين، لأنّي لم أُرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ. وإنّما هي صورة عُرضت لي أثناء قراءتي للسيرة فأثبتُّها مسرعاً، ثم لم أُرد بنشرها بأساً. ولعلّي رأيت في نشرها شيئاً من الخير، فهي تَرد على الناس أطرافاً من الأدب القديم قد أفلتت منهم وامتنعت عليهم، فليس يقرأها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربي القديم".
بهذه الكلمات، قدّم طه حسين (1889 ـ 1973) كتابه "على هامش السيرة"، الذي نشره عام 1933، والذي يبدو أنه لا يحوز الآن الاهتمام ذاته الذي تحظى به كتاباته الأخرى، خصوصاً أنه يندرج ضمن كتاباته الدينية، لا تلك التي خاض بسببها معاركه الفكرية والعقلانية.
نظرة سريعة إلى ذلك الزمن، حين نشر طه حسين كتابه، تقول لنا إن "القصّة"، بمعناها الأوروبي كفنّ لم تزل تُؤسّس لنفسها داخل المجتمع المصري؛ إذ لم تمرّ إلّا عشرون عاماً على رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل (إذا ما اعتبرناها الرواية الأولى في الأدب العربي).
أراد حسين أن ينحوَ بعمله نحواً جديداً في الكتابة التاريخية الدينية، وأن يضع الفنّ محلّ الخبر والرواية (بمعناها القديم ذي المرجعية الدينية)، بمعنى أن تظهر التأثيرات النفسية والاجتماعية على شخصيات المرويّات، بحيث تكون الغلبة للإنسان، لا للحدث التاريخي.
يُكمل في مقدّمة كتابه شارحاً لجوءه إلى شكل جديد: "أمّا الأدب القديم، فقراءته عسيرة، وفهمه أعسر، وتذوّقه أشدّ عسراً. وأين هذا القارئ الذي يطمئن إلى قراءة الأسانيد المطوّلة، والأخبار التي يلتوي بها الاستطراد، وتجور بها لغتها القديمة الغريبة عن سبيل الفهم السهل والذوق الهيّن الذي لا يُكلف مشقّة ولا عناءً".
ولا ينبغي أن نفهم من هذا أن صاحب "الأيام" يهاجم الأدب القديم، لأن السؤال البديهي هنا هو: لماذا إذن يقرأه ويبني عليه حكايات كتابه؟ يُدرك طه حسين بُعد الشقّة بين من يكتب لهم وبين الكتب العربية القديمة، لكنه لا يرضى أن يفوتهم سحرها وتأثيرها: "إذا استطاع هذا الكتاب أن يُحبّب إلى الشباب قراءة كتب السيرة خاصّة، وكتب الأدب العربي القديم عامّة، والتماس المتاع الفني في صحفها الخاصة، فأنا سعيد حقّاً، موفّق حقّاً لأحَبّ الأشياء إليّ وآثرها عندي".
أكثر من طموح، إذن، يعلنه صاحب "الفتنة الكبرى" في مقدّمة هامشه، ولعلّه وُفّق فيها؛ إذ جاء الكتاب في لغة سهلة ليّنة، لا تخلو من فخامة وجزالة، بل يمكن القول إنها قرشية خالصة في بعضها، غير أنها استحالت بين يدَي مؤلّفها كأنما هي الماء الزلال. والحكايات نفسها جاءت وفيّةً لشكلها الجديد، وملبّية طموح صاحبها في ما يرغب فيه من لذّة وإمتاع وأثر على نفس قارئيها.
لكن حكايات الكتاب لم تخضع إلى ترتيب كرونولوجي تصاعدي ككتب السيرة القديمة، وإنما جاءت متفرّقة وأشبه باللقطات المحدّدة، لتُشكّل في مجموعها ما يُمكن اعتباره بنيةً ونسقاً فكرياً أراد صاحب "مستقبل الثقافة في مصر"، من خلاله، إيصال رسالته العقلانية وإن باستتار.
يُخالف هذا ما ذهب إليه البعض من أن طه حسين إنما أراد بمثل كتاباته تلك، والتي تعالج أمر الإسلام، أن يُثبت إيمانه ويدحض اتهامه بالزندقة والكفر، خصوصاً أن كتابه "على هامش السيرة" صدر بعد سنوات قلائل من كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي".
غير أن الناقد إبراهيم العريس يرى أن التفسير بعيد عن الدقّة، ويُضيف أن "معظم الذين حاولوا ذلك النوع من التوجّه في الكتابة كانوا معروفين قبل ذلك بكونهم من أصحاب الفكر الليبيرالي العلماني، من طينة طه حسين ومحمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم.
ولسوف تقول دراسات لاحقة إن هؤلاء إنما دوّنوا ذلك النوع من الكتابة، إثر اكتشافهم، في ضوء الازدهار الذي عرفه انتشار حركة وفكر الإخوان المسلمين، أن الشعب بإيمانه العميق في واد، وهم في واد آخر، ومن هنا نما لديهم الشعور بأن من واجبهم الآن أن ينحوا في كتاباتهم إلى نوع من التوفيق بين الفكر العقلاني والحساسية الشعبية، مع محاولة الإطلال على الدين وتاريخه عقلانياً".
لم يؤلّف "عميد الأدب العربي"، إذن، كتابه مُداهناً "الأزهر" الذي هاجمه شيوخه، ولا طامعاً في رضا أحد، بل عن انشغال حقيقي بالسيرة النبوية، إذ أنه، وفي حوار تلفزيوني له مع سميرة الكيلاني في برنامج "كاتب وقصة"، أجاب عن سؤال حول أحَبّ أعماله إلى نفسه، قائلاً: "أظن أن أحبّ شيء إليّ هو كتاب "على هامش السيرة"، لأنّي صَدَرْتُ في كتابته عن حبّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حب عميق جدّاً، وأظن أنّي عبّرت عن هذا الحبّ تعبيراً لا بأس به".
لعل امتزاج المحبّة في قلب طه حسين مع عقلانيته هو الأقرب إلى المنطق فعلاً، ومحاولته عقلنة حكايات السيرة النبوية هي ما سعى إليه. يؤكّد على هذا ما قاله في مقدّمة كتابه: "وأنا أعلم أن قوماً سيضيقون بهذا الكتاب، لأنهم محدَثون يُكْبِرون العقل، ولا يثقون إلّا به، ولا يطمئنون إلّا إليه.
وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها، وهم يشْكون ويُلحّون في الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، وجدَّه في طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع إليها. وأُحبّ أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقلّ حاجةً إلى الغذاء والرضا من العقل".
هل يُمثّل الكلام السابق تراجعاً عن عقلنة كان حامل لوائها مَن وصفه أحمد لطفي السيّد بأنه سيكون "فولتير مصر"؟ في الحقيقة إن صاحب "مع أبي العلاء في سجنه" كان أذكى من مهاجميه ومناوئيه، لقد عبَر إليهم من الباب الذي يحبّون، لكنه لم يتراجع قيد أنملة عن عقلانيته وأطروحاته التي جرّت عليه المشاكل منذ صدور "في الشعر الجاهلي".
يستكمل ما سبق بالقول: "وفرقٌ عظيم بين من يتحدّث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يُقرّها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يُقدّمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش".
عمد صاحب "دعاء الكروان" إلى أن تظلّ تشكيكيّته قائمةً بالفعل، حتى وهو يتناول أحداث السيرة، لكنه التقط ما مغزاه أن الناس تذهب إلى الإيمان بقلوبها لا بعقولها، وقد بنى على هذا كتابه، فخاطب القلب بحديث لا شك أن العقل (عقل طه حسين) لعب فيه دوراً بارزاً، إن لم يكن الدور الأبرز في كتابه كلّه.