صدر قديماً: "الشهداء الحميريون" لـ إغناطيوس يعقوب الثالث

04 نوفمبر 2017
(موقع الأخدود الأثري في نجران عام 1983)
+ الخط -

يتناول هذا الكتاب الأول من نوعه، والأخير على حد علمنا، أحداثَ الاضطهاد الذي أوقعه ملكٌ حميري بأتباع الدين المسيحي من الحميريين العرب، في نجران وبقية مدن وقرى جنوبي الجزيرة العربية، الممتدة في ما يعرف اليوم باليمن وعُمان.

مؤلف هذا الكتاب الصادر في دمشق عام 1966، تحت عنوان "الشهداء الحميريون العرب في الوثائق السريانية"، هو إغناطيوس يعقوب الثالث (1912-1980) بطريرك إنطاكية وسائر المشرق، وعضو "مجمع اللغة العربية" في دمشق، المعروف، خلال فترة بطريركيته، بنشاطه في سبيل التقريب بين الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، وكاتب أكثر من ثلاثين كتاباً حول موضوعات مختلفة، منها تاريخ المسيحية، والطقوس والتعاليم الدينية، وسيرة حياة عدد كبير من آباء الكنيسة، ودراسات مقارنة بين السريانية والعربية، جمعها في كتاب "البراهين الحسية على تقارض السريانية والعربية" (1969)، وما زالت محاضرته التي ألقاها في "جامعة غوتنغن" الألمانية عام 1971، مرجعاً مهماً للباحثين في تاريخ الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وحظي بلقب "مكتبة الألحان" لأنه كان يحفظ ما يقارب 700 لحن كنسي من ألحان كتاب "بيت كازو" (بيت الكنز بالعربية).

درس البطريرك يعقوب الثالث، في كتابه هذا، وحلّل وعرض ثلاث وثائق سريانية قيّمة محفوظة، عاصر كتّابُها كما يقول: "الاضطهاد العنيف الذي أثاره على نصارى بلاد حمير اليمن سنة 523م، مسروق "ذو نواس" الذي تهوّدَ وتملّك على تلك البلاد، فاتكاً ببضعة آلاف منهم، إذ خدّ الأخدود، وحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثّل بهم كل مثلة (كما جاء في تاريخ الطبري، مجلد 2، ص.105).

وتُعدّ هذه الوثائق أوثق مصدر لمجريات هذا الاضطهاد بتفاصيله، إذ عالجتها يراعة معاصرة له بمنتهى التجرّد والنزاهة، فضلاً عن إلقائها أضواء الحقيقة على تقاليد اليهودية والدين المسيحي، وعلى امتداد جذورهما في جنوبي الجزيرة العربية في القرن السابق لقيام الرسول العربي، حيث كان كل منهما متمكناً فيها، بينما كان ظل وثنيتها يتقلص يوماً بعد يوم".

رسالتان وكتاب هما الوثائق المعنية. وكاتبهما هو مار شمعون السرياني، أسقف بيت آرشم، رئيس المؤمنين (الأرثوذكسيين) كما يوصف في بلاد الفرس بين عامي 503-540م، بالإضافة إلى تعقيب لمار يوحنا الآمدي أسقف أفسس (585م)، ونشيد كنسي نظمه مار يوحنا بسلطوس رئيس دير قنسرين (600م).

تتحدث الرسالة الأولى المعروفة عن وصول أخبار الأحداث المأساوية في اليمن عن طريقين، الأول عن طريق موفد إلى مجلس المنذر بن النعمان في الحيرة من قبل ملك الحمريين المضطهِد، يخبره فيها "أنه تملك على سائر بلاد حمير، وفكر قبل كل شيء في إبادة نصارى تلك البلاد الذين لا يتهوّدون مثله"، وأنه قضى على الحامية الحبشية التي تركت لحماية الكنيسة في ظفار، بالإضافة إلى إخباره بأمر مجزرته في نجران وإحراق كنيستها على من فيها. ويحرض المنذر في الختام على ألا يترك هو أيضاً مسيحياً في قومه إلا وقد كفر وصار من دينه.

والثاني عن طريق ساعٍ أرسلوه إلى نجران ليأتيهم بالخبر اليقين. فعاد ومعه أخبار تفصيلية ورسائل. يقول الأرشمي "ولما تُليت هذه الرسائل أمام الملك المنذر وأمام كثيرين، شمل المسيحيين حزن عظيم، فكتبنا حالاً صورتها وأرسلناها إلى محبتكم، ملتمسين أن تنقل هذه الأمور عاجلاً وسريعاً إلى الأساقفة.. وإلى رئيس أساقفة الإسكندرية، ليكتب بدوره إلى ملك الحبشة وأساقفتها لينجدوا الحميريين فوراً".

ويلفت النظر في هذه الرسالة قول كاتبها ".. وليعلم الأساقفة أيضاً، أن اليهود مستترون في ملاجئ كنائس الروم وهياكلهم، في حين أن رفاقهم يرتكبون جرائم في حق المسيحيين في بلاد الحميريين"، ويضيف: "إن أساقفة أبرشيات الروم كلها، السابقين منهم واللاحقين، طمعاً بالحصول على قيراط أو قيراطين، يؤجرون لليهود بيوت الكنائس والهياكل، ويسترونهم تحت راية الصليب".

وتضيف الرسالة الثانية التي يقول عنها بطريرك أنطاكية "لا عهد لأصحاب البحوث التاريخية بها حتى اليوم" معلومات أكثر. تقول هذه الرسالة "لما تملك هذا اليهودي (مسروق الحميري) كتب إلى حضرموت وحزبة وديار يدن وتمنة ونجران وغيرها من البلاد الخاضعة لسلطانه ليحضروا إلى ديار يدان، أما هو فتوجه إلى ظفار عاصمة الحميريين وحارب الأحباش الذين كانوا هناك.. وحين لم يقوَ عليهم بالحرب استسلموا له بالخديعة؛ أرسل لهم رسائل أمان، فخرجوا إليه مسالمين، فقتلهم جميعاً.. وأحرق الكنيسة، وأرسل رسلاً صحبة كهنة اليهود إلى البلاد الخاضعة لسلطانه لقتل المسيحيين أينما وجدوا، اللهم إلا إذا كفروا بالمسيح وتهوّدوا، وأمر أن يُحرق هو وبيته كل من يخفي مسيحياً، وأن يصادر كل ماله.

وأرسل جيشاً إلى نجران، وحاصرها، ولما عجز عن أخذها بالحرب، أرسل إليها كهنة اليهود.. حاملين توراة موسى وكتاب الأمان مختوماً بختم هذا الملك اليهودي.. حالفاً لهم أنه لن ينالهم أذى إذا هم سلموا المدينة طوعاً، وخرجوا إليه، فوثق النجرانيون بالأمان وخرجوا إليه.. وتناولوا الطعام أمامه، وأمرهم أن يخرجوا إليه في اليوم التالي ألف شخص ويتناولوا الطعام أمامه، فلما فعلوا.. وانتهوا من تناول الطعام كبلوا أيديهم وأرجلهم وجردوا من سلاحهم.. ثم أرسل الملك يهوداً ووثنيين وقبضوا على المسيحيين الذين في المدينة".

وتقول هذه الوثيقة التي تضمنت أيضاً ذكر مشادات ومنازعات كلامية بين بعض أشراف نجران المؤمنين مثل الحارث بن كعب، والشريفة رحمة بنت أزمع، وقوائم بأسماء الشهداء العرب وأطفالهم، أنه تم إدخال ما يقارب ألفين من المكبلين بالأغلال إلى الكنيسة، وأحيطت بالحطب، ثم أحرقت بكل من فيها.

أما تفاصيل ما عرف في التاريخ باسم قصة "أصحاب الأخدود"، والتي ورد ذكرها في القرآن القديم مختصراً في سورة البروج: "قُتل أصحابُ الأخدود * النارِ ذات الوقود * إذا هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد" (الآيات من 4 إلى 8)، فجاءت في الوثيقة الثالثة وعنوانها "كتاب الحميريين" حين أرسل الملك قائداً له يدعى "ذي يزن إلى نجران، فألقى القبض على ما يقارب 177 امرأة من نساء الأشراف مع أطفالهن" وأحاطهن برماة سهام، وغلق أبواب المدينة، ثم أمرهم أن يرشقوهن بالسهام.. فتطايرت السهام من كل صوب وانصبت عليهن وعلى أطفالهن بلا شفقة.. أما هن فرفعن أذرعهن إلى السماء، وأما اللواتي كن يحملن أطفالهن فوضعنهم على الأرض وغطينهم بثيابهن، ورفعن أيديهن إلى السماء أيضاً.. إلى أن تساقطن مثلما تتساقط الأشجار التي تقطع من جذورها".

ثم يختم "ذي يزن" مشهد المذبحة المروعة بأن يأمر جنوده بأن يحزّوا رؤوسهن ورؤوس أطفالهن، وهو ينظر إليهن "وقد انطرحن على الأرض مضرجات بدمائهن ودماء أطفالهن، ويستمع إلى أنينهن وأنين أطفالهن الذي كان يسمع من بعيد.. ثم أمر بفتح أبواب المدينة، فدخل الرجال الذين معه وجمعوا من وجدوه من الفتيان والرجال وأمروهم بأن يسحلوا جميع الأشلاء إلى ظاهر المدينة.. فسحلوها، وألقوها في الخندق الذي خارج سور المدينة".

وصف هذه الأحداث المروعة هو لب هذا الكتاب اعتماداً على شهود عيان، ولكن الكتاب يضيف أبواباً أخرى أيضاً، تتناول النصرانية وتاريخها في البلاد الحميرية، ومذهب الحميريين العرب النصارى الأرثوذكسي، وباب دراسة في الوثائق السريانية، وأخيراً باب البلاد الحميرية بعد الفتح العربي/ الإسلامي، وفيه ذكر لما ورد لدى العالم السرياني غريغوريوس أبو الفرج بن هارون المشهور باسم ابن العبري (1228-1286م)، في كتابه "التاريخ الشامل" عن الزمن الذي ظهر فيه "محمد نبي المسلمين" بحسب تعبيره، حيث يروي خبر الوفد الذي ترأسه "السيد، رئيس كل المؤمنين النجرانيين إليه.. فحمل هدايا وتقدمات واصطحب معه أسقفهم.. فحظي منه بكتاب عجيب توصية بالمسيحيين، مفاده أن يحميهم المسلمون من جميع المضار، وألا يضطروهم إلى مرافقتهم إلى الحرب، أو إلى تغيير شعائرهم وشرائعهم، وأن يساعدوهم في بناء كنسية متهدمة يريدون تجديدها.. وإذا وجدت امرأة مسيحية في بيت أحد المسلمين لا يجوز أن يضطرها إلى ترك دينها أو أن يمنعها من ممارسة صومها وصلاتها وتعلم عقيدتها".

المساهمون