بدأ الإعلام الغربي يتّجه إلى التضامن مع الشعب السوري ضدّ المجازر التي يتعرّض لها، بشكل أكثر وضوحاً و"راديكالية"... أو لنقل بعيداً عن الالتباس الذي كان سائداً في السنوات السابقة، حيث حاول قسم كبير من هذا الإعلام الوقوف وقفة "موضوعية" تجاه ما يحصل في سورية. هكذا كنا نرى مقالات تنتقد النظام السوري، ومعها مقالات أخرى تنتقد التنظيمات المعارضة المسلحة. لكن أخيراً، تحديداً بعد ارتفاع وتيرة المجازر التي يرتكبها النظام مع حليفه الروسي وطائراته، اتخذ التضامن أشكالاً مختلفة. مجلة "تايم" الأميركية مثلاً خصصت غلافها للدفاع المدني السوري، مع ملف كامل في الداخل عن عناصر هذا الدفاع، خصوصاً بعد الحملة العالمية التي رشّحت متطوعي "الخوذات البيضاء" لنيل جائزة "نوبل للسلام".
عدد كامل لسورية
وأخيراً فاجأت صحيفة "إنفارماسيون" الدنماركية، وهي الأكثر رزانة وجدية في البلاد، في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي، قراءها ومتابعيها بتخصيص عدد نهاية الأسبوع كله للقضية السورية على امتداد 39 صفحة. بل أخذت الصحيفة غلافها الأول والصفحة الأخيرة لتقدم صورة بانورامية وتحتها عنوان افتتاحية مثيرة للانتباه "معركة حلب هي معركة النظام العالمي"، بقلم رئيسة تحرير نسخ نهاية الأسبوع، لوتا فولك كارسهولم.
وفي الافتتاحية أعادت كارسهولم سرد الثورة السورية بتذكير القراء وصناع القرار: "في ربيع 2011 خرج السوريون في درعا يطالبون بالديمقراطية، وبعدها انتشرت المظاهرات في المدن السورية الأخرى. ومثلما خرجت شرق أوروبا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي كان الربيع العربي قد بدأ للتو، بحث عن ديمقراطية وحقوق عالمية. هؤلاء الذين خرجوا في تلك التظاهرات وبقوا على قيد الحياة تغيّروا نحو مواقف متشددة. لقد عبّر ابن حلب، وخريج القانون في جامعتها، اللاجئ اليوم، مصطفى إسماعيل، كشاعر عما يفكر فيه السوريون: "القيم الغربية والأفكار الكبرى عن الحرية وحقوق الإنسان هي في وعيي لم تعد سوى ذكرى لأفكار فنانين ومفكرين وكتبهم، والتي قرأتها يوما ما".
بعدما نقلت ما لدى السوريين من خيبة تجاه الغرب وقبل أن تطرح سؤالها، ذهبت ليزا فولك كارسهولم إلى القول: "يمكننا أن نبكي أطفال سورية وموتهم ونشعر بالاشمئزاز من غازات الأسد وألاعيب القيادات الأخرى الاستراتيجية، يمكننا أن نشعر بالعار تجاه الغرق في المتوسط، يمكننا أن ننتقد قادتنا في كل فرصة لأنهم استغلوا الديمقراطية وحقوق الإنسان للحفاظ على مصالحهم. دعونا نسأل: هل يمكن تخيل أن مفاهيم العدالة الدولية وحقوق الإنسان يمكن أن تبقى أم أنها ماتت مع سورية؟".
وبعد أن تعدد افتتاحية الصحيفة ما سمته "سلطوية بوتين وعدم رحمة الأسد في حلب فإننا أمام أميري حرب"، تذهب للاستناج: "نحن أمام شواهد عن جرائم حرب بالضد من القانون الدولي واتفاقية لاهاي ووثائق نورينبيرغ، فهل يمكن أن نترك البراميل المتفجرة هكذا لتنتصر؟".
أن تخصص صحيفة غربية كامل صفحات عددها لقرائها، مع خرائط وإنفوغراف وكل الأقسام بما فيها الثقافة للقضية السورية، بالتأكيد ليس أمراً اعتيادياً. فالحالة، وبالتحديد المزاج العام للشارع يعيش حالة هلع مما يجري حوله في بحر الشمال والبلطيق. هؤلاء القراء يعرفون الدور الروسي تماماً، بل ليس غريباً أن ُيجري الناس مقارنات بين هتلر في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي وما يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حولهم، وربما انطلاقا من المنطقة العربية.
بررت الصحيفة اختيارها لتخصيص عددها الجمعة "ليكون مركّزاً على سورية وحلب تحديداً، لأنه ها هنا تجري محاولات اللعب بخطوط العالم. وها هنا تجري الفظائع والتدمير لإيماننا بأننا نعيش في عالم يكون فيه المجتمع الدولي حامياً لكل شعب يعيش في ظل الديكتاتوريين السفاحين ومجرمي الحرب. وسورية بالنسبة لنا ليست مجرد بلد في حالة حرب، إنه بلد صاحب إرث ثقافي كبير شعرا وأدبا، وحيث يظل الشعب يحلم. لقد اخترنا اليوم أن نفتح قوسين لنقول للجميع إن النظام العالمي تجري محاولة إعادة رسمه من جديد".
نظام الأسد يتحلل وينهار
في الصفحات التي خصصتها الصحيفة للقضية السورية، نقرأ عرضاً تفصيلياً لنظام الأسد بعنوان "نظام الأسد تحت التغيير"، وفيه ذهبت الصحيفة إلى عرض "للديمقراطية الأسدية واضحة على الورق، فنظام سورية الدستوري رسميا هو نظام ديمقراطي، حيث هناك واجب انتخابات برلمانية. لكننا في الواقع أمام 50 عاما من حكم سلطوي هرمي مكون من أجهزة أمنية وقادة عسكريين. هذا بالإضافة إلى استكمال بنية هذا النظام بعائلة الرئيس وأقاربه. لكننا في الواقع أيضاً أمام تحلل وانهيار لهذه التركيبة، وما يطلق عليه "المستشارون من إيران وروسيا أصبحوا هم الممسكين بالسلطة". لاسا إيلغورد، المتخصص في قضايا العالم العربي في الصحف الدنماركية، كتب للقراء تحليلاً يذكّر فيه بما قاله بشار الأسد في لقاء مع القناة الثانية الدنماركية "فقد بدا وكأنه يعرض نفسه كمنتخب ديمقراطياً. بل أخبرنا وبكل تواضع بأنه خادم لشعبه! وأعاد تذكيرنا بأنه لولا الدعم الشعبي لما كان على الكرسي اليوم. قبل أيام فقط ذكر مصدر لصحافيين في لبنان بأن الإيرانيين في الواقع هم الذين يمسكون السلطة اليوم، وإلى جانب ذلك التدخل الروسي لاستغلال الوضع لإجراء تغييرات في مصلحة موسكو. باختصار لم يعد الأمر، ووفقا للمحللين، هو حول ما إذا كان بشار الأسد لديه نظام حكم بل السؤال هو ما إذا كان هناك حكم سوري الآن".
دعونا لا نكذب على بعضنا
ذهبت الصحيفة لإجراء حوار مع مايكل أغناتيف، الذي حمّل الغرب مسؤولية "هذه الدموية الحاصلة، فدعونا لا نكذب على بعضنا، إذا لم نتدخل فلن نتدخل، ولكن بعدها لا يخبرني أحد عن القيم الأوروبية". وفي رأي أغناتيف، فإن ما يجري ليس فقط "تحديد مستقبل سورية، والتي دمرت تحت أنقاض حلب، ومثلها يدمر النظام القانوني الدولي الذي شهدناه منذ سقوط جدار برلين". ولم يتردد في توجيه نقد لاذع للسياسة الأميركية والعالمية التي شاهدت "القصف بالغازات في 2013 والقفز عن الخطوط الحمراء دون تدخل يذكر".
في البحث عن الحل في سورية، أجرت الصحيفة لقاءات مع أحزاب ومنظمات دولية وكان شبه إجماع على أنه من دون أن يجري الضغط على روسيا يصعب إيجاد حل. وهو ما اتفق عليه ناصر خضر، عضو البرلمان الدنماركي عن المحافظين، وبارنيلا سكيبر، من اللائحة الموحدة، اليساري اللذين تحدثا بمرارة عن "ترك السوريين لمصيرهم تحت رحمة صواريخ روسيا وإيران". ويطالب اليسار الدنماركي بفرض منطقة حظر جوي، وهو تطور في الموقف لم يكن في السابق بنتيجة موقف معارض لتركيا.
بكل الأحوال تجربة تقديم 39 صفحة كاملة مع صور وحقائق عما يجري في حلب ولقاء مع خبراء في السياسة والقانون وعرض الجانب الإنساني من الماساة، تجربة جديدة في عالم الصحافة الدنماركي، الذي دائما ما كان متحفظا في التعاطي مع الشأن العربي، لكن يبدو أن سورية ومأساتها بالفعل، كما تذهب الصحيفة، "بدأت بتغيير قواعد السياسة الدولية".
اقــرأ أيضاً
عدد كامل لسورية
وأخيراً فاجأت صحيفة "إنفارماسيون" الدنماركية، وهي الأكثر رزانة وجدية في البلاد، في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي، قراءها ومتابعيها بتخصيص عدد نهاية الأسبوع كله للقضية السورية على امتداد 39 صفحة. بل أخذت الصحيفة غلافها الأول والصفحة الأخيرة لتقدم صورة بانورامية وتحتها عنوان افتتاحية مثيرة للانتباه "معركة حلب هي معركة النظام العالمي"، بقلم رئيسة تحرير نسخ نهاية الأسبوع، لوتا فولك كارسهولم.
وفي الافتتاحية أعادت كارسهولم سرد الثورة السورية بتذكير القراء وصناع القرار: "في ربيع 2011 خرج السوريون في درعا يطالبون بالديمقراطية، وبعدها انتشرت المظاهرات في المدن السورية الأخرى. ومثلما خرجت شرق أوروبا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي كان الربيع العربي قد بدأ للتو، بحث عن ديمقراطية وحقوق عالمية. هؤلاء الذين خرجوا في تلك التظاهرات وبقوا على قيد الحياة تغيّروا نحو مواقف متشددة. لقد عبّر ابن حلب، وخريج القانون في جامعتها، اللاجئ اليوم، مصطفى إسماعيل، كشاعر عما يفكر فيه السوريون: "القيم الغربية والأفكار الكبرى عن الحرية وحقوق الإنسان هي في وعيي لم تعد سوى ذكرى لأفكار فنانين ومفكرين وكتبهم، والتي قرأتها يوما ما".
بعدما نقلت ما لدى السوريين من خيبة تجاه الغرب وقبل أن تطرح سؤالها، ذهبت ليزا فولك كارسهولم إلى القول: "يمكننا أن نبكي أطفال سورية وموتهم ونشعر بالاشمئزاز من غازات الأسد وألاعيب القيادات الأخرى الاستراتيجية، يمكننا أن نشعر بالعار تجاه الغرق في المتوسط، يمكننا أن ننتقد قادتنا في كل فرصة لأنهم استغلوا الديمقراطية وحقوق الإنسان للحفاظ على مصالحهم. دعونا نسأل: هل يمكن تخيل أن مفاهيم العدالة الدولية وحقوق الإنسان يمكن أن تبقى أم أنها ماتت مع سورية؟".
وبعد أن تعدد افتتاحية الصحيفة ما سمته "سلطوية بوتين وعدم رحمة الأسد في حلب فإننا أمام أميري حرب"، تذهب للاستناج: "نحن أمام شواهد عن جرائم حرب بالضد من القانون الدولي واتفاقية لاهاي ووثائق نورينبيرغ، فهل يمكن أن نترك البراميل المتفجرة هكذا لتنتصر؟".
أن تخصص صحيفة غربية كامل صفحات عددها لقرائها، مع خرائط وإنفوغراف وكل الأقسام بما فيها الثقافة للقضية السورية، بالتأكيد ليس أمراً اعتيادياً. فالحالة، وبالتحديد المزاج العام للشارع يعيش حالة هلع مما يجري حوله في بحر الشمال والبلطيق. هؤلاء القراء يعرفون الدور الروسي تماماً، بل ليس غريباً أن ُيجري الناس مقارنات بين هتلر في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي وما يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حولهم، وربما انطلاقا من المنطقة العربية.
بررت الصحيفة اختيارها لتخصيص عددها الجمعة "ليكون مركّزاً على سورية وحلب تحديداً، لأنه ها هنا تجري محاولات اللعب بخطوط العالم. وها هنا تجري الفظائع والتدمير لإيماننا بأننا نعيش في عالم يكون فيه المجتمع الدولي حامياً لكل شعب يعيش في ظل الديكتاتوريين السفاحين ومجرمي الحرب. وسورية بالنسبة لنا ليست مجرد بلد في حالة حرب، إنه بلد صاحب إرث ثقافي كبير شعرا وأدبا، وحيث يظل الشعب يحلم. لقد اخترنا اليوم أن نفتح قوسين لنقول للجميع إن النظام العالمي تجري محاولة إعادة رسمه من جديد".
نظام الأسد يتحلل وينهار
في الصفحات التي خصصتها الصحيفة للقضية السورية، نقرأ عرضاً تفصيلياً لنظام الأسد بعنوان "نظام الأسد تحت التغيير"، وفيه ذهبت الصحيفة إلى عرض "للديمقراطية الأسدية واضحة على الورق، فنظام سورية الدستوري رسميا هو نظام ديمقراطي، حيث هناك واجب انتخابات برلمانية. لكننا في الواقع أمام 50 عاما من حكم سلطوي هرمي مكون من أجهزة أمنية وقادة عسكريين. هذا بالإضافة إلى استكمال بنية هذا النظام بعائلة الرئيس وأقاربه. لكننا في الواقع أيضاً أمام تحلل وانهيار لهذه التركيبة، وما يطلق عليه "المستشارون من إيران وروسيا أصبحوا هم الممسكين بالسلطة". لاسا إيلغورد، المتخصص في قضايا العالم العربي في الصحف الدنماركية، كتب للقراء تحليلاً يذكّر فيه بما قاله بشار الأسد في لقاء مع القناة الثانية الدنماركية "فقد بدا وكأنه يعرض نفسه كمنتخب ديمقراطياً. بل أخبرنا وبكل تواضع بأنه خادم لشعبه! وأعاد تذكيرنا بأنه لولا الدعم الشعبي لما كان على الكرسي اليوم. قبل أيام فقط ذكر مصدر لصحافيين في لبنان بأن الإيرانيين في الواقع هم الذين يمسكون السلطة اليوم، وإلى جانب ذلك التدخل الروسي لاستغلال الوضع لإجراء تغييرات في مصلحة موسكو. باختصار لم يعد الأمر، ووفقا للمحللين، هو حول ما إذا كان بشار الأسد لديه نظام حكم بل السؤال هو ما إذا كان هناك حكم سوري الآن".
دعونا لا نكذب على بعضنا
ذهبت الصحيفة لإجراء حوار مع مايكل أغناتيف، الذي حمّل الغرب مسؤولية "هذه الدموية الحاصلة، فدعونا لا نكذب على بعضنا، إذا لم نتدخل فلن نتدخل، ولكن بعدها لا يخبرني أحد عن القيم الأوروبية". وفي رأي أغناتيف، فإن ما يجري ليس فقط "تحديد مستقبل سورية، والتي دمرت تحت أنقاض حلب، ومثلها يدمر النظام القانوني الدولي الذي شهدناه منذ سقوط جدار برلين". ولم يتردد في توجيه نقد لاذع للسياسة الأميركية والعالمية التي شاهدت "القصف بالغازات في 2013 والقفز عن الخطوط الحمراء دون تدخل يذكر".
في البحث عن الحل في سورية، أجرت الصحيفة لقاءات مع أحزاب ومنظمات دولية وكان شبه إجماع على أنه من دون أن يجري الضغط على روسيا يصعب إيجاد حل. وهو ما اتفق عليه ناصر خضر، عضو البرلمان الدنماركي عن المحافظين، وبارنيلا سكيبر، من اللائحة الموحدة، اليساري اللذين تحدثا بمرارة عن "ترك السوريين لمصيرهم تحت رحمة صواريخ روسيا وإيران". ويطالب اليسار الدنماركي بفرض منطقة حظر جوي، وهو تطور في الموقف لم يكن في السابق بنتيجة موقف معارض لتركيا.
بكل الأحوال تجربة تقديم 39 صفحة كاملة مع صور وحقائق عما يجري في حلب ولقاء مع خبراء في السياسة والقانون وعرض الجانب الإنساني من الماساة، تجربة جديدة في عالم الصحافة الدنماركي، الذي دائما ما كان متحفظا في التعاطي مع الشأن العربي، لكن يبدو أن سورية ومأساتها بالفعل، كما تذهب الصحيفة، "بدأت بتغيير قواعد السياسة الدولية".