صبرا وشاتيلا في الفنّ؛ الجسد متداعٍ على نفسه

28 ابريل 2015
+ الخط -
إن كانت نكبة 1948 قد شكّلت هوية الفنّ الملتزم في المنطقة العربية ومهّدت الطريق أمام الفعل الإبداعي الحامل لرسالة سامية في دعم النضال ضدّ القوى الاستعمارية، وأتت نكسة 1967 لتحيل الفعل الإبداعي البصري والأدبي على حدّ سواء، إلى أداة ناقضة للذات العربية المنهزمة ومنادية بمراجعة شاملة للنهج الذي تسلكه السياسة في التعامل مع القضية الفلسطينية، بل إنها دفعت نحو تغيير فكري أيديولوجي في النسيج السياسي العربي، فإن مجزرة صبرا وشاتيلا قد أوجعت بصورة مباشرة الضمير، إذ شكّلت ببعدها التراجيدي الصادم نقطة تحوّل مركزية في الأدبيات المعالِجة للكارثة الفلسطينية منذ سقوط الوطن في أيدي المحتل وضياعه في متاهات الخذلان والتآمرين العربي والدولي، والقهر وضيق ذات اليد على المستوى الشعبي.

تناول الكثير من الفنانين والأدباء من العرب وغير العرب المذبحة وعالجوها في أعمال كانت وما تزال، تؤلّف مرجعية فكرية وبصرية توثيقية عن فظاعتها. وإذ ارتبطت المذبحة بحرب احتلالية إجرامية إسرائيلية، فقد صنّفت كلّ محاولات التعبير الإبداعي عنها تحت مظلة الفنّ السياسي، وغيّبت تلك التصنيفات المجحفة أيَّ دورٍ للحس الإنساني لدى الفنان.

فلم يحدث أن رُبط تعبير فنّي أو أدبي بالسياسة أو تمّ تأويله سياسياً كما حدث في الحالة الفلسطينية، بل إن مصطلح "فنّ سياسي" أضحى يشكّل هوّية الفنّ الفلسطيني، فجرّدت هذه الحصرية السطحية في التأويل، دلالات إنسانية كثيرة من أبعادها المعنوية، وجماليات بمفهومها الفنّي البحت من مفهوميها: التعبيري والأدبي المتعلّقين بالقضية الفلسطينية على مدار الأعوام الستين المنصرمة.

إذ دأب الكثير من النقّاد والمتخصصين في الفنّ، عند دراستهم لأي عمل فنّي يتناول الموضوع الفلسطيني، على خلق تأويلات وإيحاءات مسبّقة تُصنّف العمل الفنّي في خانة الفنّ السياسي، متعمّدين إغفال الجانب الإبداعي وتهميش جوهر العمل الفنّي ذاته. فهل كلّ ما يعبّر عن الحالة الفلسطينية سياسي برمّته؟ وفي أية خانة يمكن إدراج العمل الفنّي؟ هل في السياق التاريخي للحدث أم في السياق الإنساني؟

لا شكّ أن تعاظم الاهتمام بالفنّ العربي خلال العقد الماضي مدفوعاً بسطوع نجم السوق الفنّية محركًا رئيسًا له، غيّب بشكلّ شبه كامل خاصية البحث العلمي والفكري التي يُمكن من خلالها تحقيق توازن منطقي مقابل استحواذ مقياس السوق على الفنّ العربي، ما أدّى بكل وضوح إلى إحداث حالة من الفوضى تتفاقم يوماً بعد آخر في المحيط الفنّي العربي بمجمله.

فجأة عرف العالم أن العرب صنّاع للفن، وفجأة تقرّرت إعادة استكشاف "شرق ألف ليلة وليلة" استنادًا إلى معطيات مبهمة لا تمتّ بصلة إلى الواقع العربي، بل إنها مستقاة من قوانين جاهزة تمّ ابتداعها في مختبرات تحليل الواقع العربي من منطلق هلامي، خطّته مشاهدات المستعمرين الاستشراقيين سابقًا، وغذّته مزاعم الأدوات الإعلامية الحالية بمصطلحاتها وانطباعاتها السياسية، الدينية، الدموية المأسوية وتصنيفاتها الجائرة التي لا تصلح من منظورهم سوى للعالم العربي.

وبهذا، شكّلت السياسة بمفهومها التصارعي الضالة التي وُجِدت كي يلصق بها الفنّ عنوةً، مع أن هذا لا جرم فيه من الناحية النظرية، فبإمكان الفعل الفنّي التداخل مع الحدث السياسي والتعبير عنه. لكن هذه العلاقة تحكمها قواعد توجب مراعاة جوهر العمل الفنّي واستحضار السياقين: الإنساني والتاريخي للحدث المراد التعبير عنه.

فكم من الأعمال الفنّية التي أنتجها مبدعون فلسطينيون وغير فلسطينيين زُجّ بها ضمن إطار الفنّ السياسي رغم حرص أصحابها على عدم إدراجها ضمن منظومة التنظير السياسي للقضية. فأية عملية تصنيف للعمل الفني تتمّ بناءً على الشواهد الحالية في عالم الفنّ في المنطقة العربية وعلى مستويين اثنين: ما يريده الفنان لعمله وما يريده عالم الفنّ له أو ما يؤوله نقّاد الفنّ والمتخصصون في دراسته، وهنا تفرض مسألة الأصالة والمضمون في الطرح الإبداعي عن الحالة الفلسطينية نفسها بقوّة.

المؤسف في هذه المعادلة أن الكثير من الفنانين العرب قد اقتنعوا بل أقنعوا أنفسهم، بصحّة التأويلات المتداولة حول أعمالهم التي أكسبتها على حدّ اعتقادهم هالة من الفرادة والصدقيّة، وأُعجبوا بما يريد لهم عالم الفنّ ومتخصصوه أن يكونوا عليه، وسطع نجم مصطلح "الفنّ السياسي"، حتى بات مغرياً لدرجة يصعب معها اليوم تفسير أي عمل إبداعي عربي خارج الإطار السياسي، وعلى النقيض من ذلك فإن هذا التأويل والإصرار قد خذلا الفكرة الأولى للإبداع البصري ونزعاها من كيان العمل الفنّي.

في سياق الخطاب الفكري المُقدّم للمُنتج الإبداعي العربي، اقترنت عملية تأويل التعبير عن المأساة والعذاب والقمع والقتل في الفنّ العربي، بالحالة السياسية للمنطقة العربية بشكل ممنهج، وإن همّش هذا الخطاب بشكل صارخ رسالة الفنان كما أرادها أن تكون، تلك الرسالة التي شحذ تفاصيلها البصرية الحسّ النقدي الشخصي لديه.

في هذه النقطة، يخرج إبداع النحّات الكويتي سامي محمّد، (في معرضه الاستعادي في قاعة كاب، منصة الفنّ المعاصر ـ الكويت، القيّم على المعرض عبد القادري)، عن نطاق المتعارف عليه، كما أنه خارج إطار ذاك التأويل الحصري للفنّ المعبّر عن المأساة البشرية على أنه سياسي فقط لأنه تناول عذاب الإنسان الذي افترض منظّرو الفنّ السياسي أنه الإنسان العربي "المعذّب المقموع" فقط وليس الإنسان بصفته المجردة: "وُلدت مرحلة الصناديق التي جاء معظمها ليروي قصة إنسان يتحرّك بكلّ قوّة، يحطم عنه قيوده وأغلاله. يأمل في الخلاص والاستحمام بنور الحياة. ابتداءً من تلك المرحلة وفي كل ما تبعها، أصبح "الإنسان" هو وعيي وهاجسي وقضيتي. الإنسان المقهور المسحوق المعذّب. الإنسان في بحثه الدؤوب والدائم عن الحرية والحب والسلام".

ماذا لو تمّت قراءة أعمال سامي محمّد بمعزل عن هوّيته العربية؟ أكان سيُنظر إليها على أنها أعمال تعبّر عن العربي المقموع؟ بالتأكيد لا.
بالنظر إلى تجربته الفنية المرتبطة بالإنسان المعذّب، يقتحم الجسد المشهد بقوة طاغية، ما يميّز تلك الأجساد المكبّلة المحطّمة هو حضور النقائض في سردياتها، فهي مهشّمة وما زالت رغم ذلك تنبض بالحياة، مكبّلةً وما زالت تفاصيلها تختزن قوّة جسدية عضلية، أجساد منهارة وما زالت شاهدة على الشموخ. من هذا المرتكز الأصيل تنبثق فكرة سامي محمّد كفنان استثنائي مُخلِص لفكرته الأولى حول قهر الإنسان.

فهو الفنان الحرّ من كلّ مسلّمات الواقع الفنّي العربي الحالي، فعمله "صبرا وشاتيلا"، ما هو إلا امتداد لمشروعه الفنّي المستمر الذي يعالج فيه عذاب الإنسان المتمثّل بتلك الأجساد المكبّلة المسحوقة الثي تثير فينا الألم بوجهيه المادي والمعنوي، تلك الأعمال التي تغرقنا في سديمها السوداوي لنتماهى بكليّتنا في عذابها وتشرذُمِها وقوتها. 

من قلب هذا الإبداع المتمثّل بلغة فنّية انحاز بها محمّد إلى الإنسان المعذّب المكبّل ومحاولاته اللامتناهية لإثبات ذاته الإنسانية رغم كل شيء، أخرج لغة الخطاب الفنّية من تراتبية الكلمات الاعتيادية الموجّهة نحو حدث ما أو إلى شعب أو فكر معيّنين، صوب عمومية الخطاب التي تمسّ الإنسان المجرّد عبر إصرارها على استشراف كنهه، لا تناول ما يحيط به.

انطلاقاً من هذه المعالجة الفنّية للإنسان والجسد ـ ينضم عمله النحتي المدهش عن ضحايا المجزرة إلى ركب تلك اللغة الفنية الشمولية. ليست لهذا العمل أية نوايا سياسية أو أيديولوجية، بل بكلّ بساطة هناك فنّ إنساني، فرغم أن هذا الجسد المتداعي على نفسه يوحي بفداحة الكارثة إلا أنه لا يستجدي التعاطف المنطقي للمشاهد، بل يحتفظ بتفاصيل قوّته مثل كلّ أجساد سامي محمّد المعذّبة التي تقتحم اللامألوف لتشهر وتفصح عن ذاتها الشجاعة الرافضة لأي شكل من أشكال الخنوع.

لقد كان هذا الجسد المنهار شامخًا بكلّ قوّته قبل انهيارٍ لا يعني بالضرورة موته، فهو ما زال مفعماً بالقوّة رغم وهنه الكامل. هنا تنبثق من الكيان ومضات عميقة لتنفي سطحية الفكرة البصرية الأولى، وتأخذ العقل أبعد من حدود المشاهد الفيزيائي إلى مكمن الفؤاد الحقيقي الذي يرى انتصار القوّة على الانهيار والحياة على الموت تمامًا مثل المذبحة التي هزمت مرتكبيها.
(ناقد فني فلسطيني)


المساهمون