صباح فلماني

11 يونيو 2020
(منحوتات لسلوى روضة شقير)
+ الخط -

أخرجُ لأملأ تيرموس القهوة: رذاذ خفيف في الخارج. صالة الطعام مطفأة. أنتظر على الباب الخارجي، بجوار ثلاجة الماء.

دقائق ويأتي الموظف الشاب على الموعد تماماً: السابعة وعشرين دقيقة من كل يوم. أتلقى تحيّة الصباح بأحسن منها.

يَفتح الموظف الباب، وأدخل من إحدى ضلفتيه عبر ممرّ حديدي.
النور الآن مُشعل في الصالة.
أتجه نحو صنابير الماء، لأغسل التيرموس من بقايا قهوة الأمس.
أغسل يدي أيضاً، تنفيذاً للتعليمات الصارمة، التي تسيّر البلد، منذ منتصف الأزمة.
أُلاحظ، بدهش، خمسة من الموظفين الشباب الجدد، وثلاثة منهم بذقون وعراض المناكب، يجلسون متقاربين جداً، ويتكلّمون اللغة النيدرلاندية، لغة الجانب الفلاماني البرجوازي من المملكة.

اللغة، التي تبدو لي، مشفرة ومحوّرة عن اللغة الإنكليزية.

أستغرب وجودهم بهذا العدد، فقط لكي يُحضّروا سخّان القهوة والشاي الكبير، وكي يراقبوا المسافة الآمنة بين الداخلين.

مع أنه ليس ثمة من داخلين ولا خارجين. على الأعم، لا يأتي أحد سواي لتناول قهوة الصباح، وحتى قبل شهر رمضان، لم يكن أحد ليستيقظَ ويقطع ساعة النوم الهنيئة هذه، بعد سهر طاول الفجر، من أجل كأس قهوة عديم الطعم والشذا.

بل إنهم حتى، لم يكونوا، أقصد اللاجئين، ليأتوا كي يأخذوا وجبة الفطور الروتينية البائسة.

أخرج من الصالة، وقد توقّف الرذاذ الجميل. أصل إلى غرفتي وأتناول شريحتَي خبز أبيض (لعدم توافر الأسود، حتى لأصحاب المرض) وبعض المربّى غير مسحوب السكر، وأخرج مرّة ثانية، كي أدخن وأشرب وأرقب الطقس، أمام الساحة المعشوشبة، كل هذا جميعاً في آن.

لكم فتنتني من قبل مشاهدة الصباح الباكر، وكيف تنبثق لوحات شفقهِ البديع وتتحوّل درجاتها اللونية، من دقيقة لأخرى.

كان الخروج لرؤية الصباح الوليد عادة قديمة رافقتني منذ الصبا. فلقد ولدت في مخيم، تحوطه غابة أحراش، وأشجار كثيفة من الكينا والأكاسيا مزروعة على كثبان رملية صفراء، لا أجمل ولا أبدع.
عادة ما زالت ترافقني، وتخفّف عني عبء الساعات القادمة من كل نهار.

أفكر في هذا، وأعود فأضع الكأس تحت السرير، وأخرج لأتريّض في محيط الحقول القريبة، حيث أشاهد سكّان المنطقة المترفة، من جميع الأعمار، وهم يركضون أو يعتلون أعنة الدراجات الهوائية بموتور. مثلما أشاهد الخيول ترعى عشبها المندّى تحت حوافرها، في مزارع كبيرة مخصصة لها، وقد ولدت بعضُ إناثها، والرضيع أبو أسبوعين يسعى رشيقاً بجوار أمه.

أو الغزلان وهي تشرئب بأعناقها، في هدأة الوقت، كي تراني وأنا أتأملها من خلف سياج مرصع بزهرات صفراء ناصعة الصفار.

إلهي!
إن لم تكن هذه جنتك الموعودة، فما هي الجنة؟
ويا إلهي!
كيف يُقدَّر لكائن فانٍ مثلي أن يفهم هذا التناقض غير المقبول: طبيعة جميلة ومواطنون قاتمون، لا يضحكون، لا فحسب للرغيف السخن، وإنما للوردة الصفراء الدالعة وسط خَضَار معتنى به جيداً؟


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا مؤقتاً

المساهمون