شيخوخة أكثر رأفة

11 أكتوبر 2014
+ الخط -

بائسة ومجحفة وغادرة في مجتمعاتنا العربية، النظرة السلبية للشخص المسن، مهما كان منجزه وتميّزه. يُنظر إليه باعتباره فائضاً عن المكان والزمان، ما يستدعي، حكماً، تهميشه وإقصاءه بلا رحمة أو حساسية، عن دائرة الحدث، فتُملى عليه شارة النهاية، قبل استعداده لها، إذ نفترض به بالمطلق النكوص والانسحاب والزهد بمباهج الدنيا، انطلاقاً من أنه (حسن الختام).
تلك هي الحالة النمطية المكرسة والمفترضة للمسن، فهو الحكيم الرزين الوقور. هذا ما تؤكده ثقافتنا السائدة في سياق التأكيد على احترام كبار السن، وإذا اصطدمنا بنموذج مختلف للمسن، كأن يكون نشيطاً مرحاً حيوياً مقبلاً على الحياة، فإنه، وفق منظور الجماعة، (شايب وعايب) أو (ميت على الدنيا)، أو متصاب بشخصية مهزوزة منزوعة الهيبة، تتميز بالخفة غير المستحبة.
ويتمتع الفرد الغربي، بغض النظر عن منبته وأصله وفصله وجنسه ومعتقده، بكل حقوق المواطنة في القوانين، ويحظى كبار السن، خصوصاً، بكل رعاية، من ضمان اجتماعي يتمثل في راتب تقاعدي، يحفظ كرامتهم الإنسانية من الهدر، إلى تأمين صحي شامل، يقيهم شر عثرات المرض، إضافة إلى معاملة خاصة، وتسهيلاتٍ في استخدام المواصلات العامة وارتياد المتاحف والمقاهي والحدائق والمكتبات والشواطئ والمرافق المصممة لسهولة حركتهم، فيمارسون نشاطهم الإنساني مواطنين مكتملي المواصفات والمقاييس، ولكن بتجاعيد أكثر، ويفرضون وجودهم، بقوة القانون وحضاريته، وحقهم كأفراد، قاموا بتأدية الواجبات التي ترتبت عليهم، بكل أمانة وإخلاص، في شبابهم، ما يجعلهم مستحقين، وبجدارة، جني ثمار تعب أعمارهم: تقاعد مريح، لا يخلو من استرخاء ومتعة، من دون فضلٍ من أحد، فينال الواحد منهم حقه الطبيعي في الكرامة، حتى النفس الأخير.
وفي وقت ينهمك فيه المسن الغربي في التخطيط لزيارة أهم المواقع السياحية في العالم، والتعرف على ثقافات وعوالم جديدة، يكون أقصى إنجاز يحققه المسن المحظوظ لدينا ويتباهى به أفراد العائلة، أنه ما يزال قادراً على الوصول إلى الحمّام منفرداً، وأنه، ما شاء لله، قادر على خدمة نفسه بنفسه، من دون أن يزعج ابناً، أو صهراً، أو كنّة. وإذا كان يملك عقاراً، فإنه سوف يُقتاد إلى دائرة الأراضي، لكي يسجله بأسماء أولاده الذكور، لئلا يشاركهم الغريب في الميراث!
وكما هو معروف في ثقافتنا الشعبية، فإن الأمنية التقليدية التي تراود أياً منا، وكثيراً ما نسمعها من كبار السن، هي الدعاء بقصر الأجل وبالموت الرحيم، بأن يأخذ الله أمانته منا، ونحن سائرون على أقدامنا، فلا يصير الواحد منا عبئاً ثقيلاً على المحيطين به، وهي أمنية منطقية جداً، مع قسوتها. ولكن، ما هو السيناريو البديل لسنوات شيخوخةٍ آمنةٍ كريمةٍ، في واقع اجتماعي وقانوني وتشريعي مؤسف، لا يراعي حقوق هذه الفئة الأساسية في المجتمع، ولا يؤمن لها حبل النجاة من تبعات أرذل العمر سوى الموت ذاته!
في هذا السياق، يبدو الخطاب العاطفي المستند إلى قيم الروابط الأسرية والتضامن والتكاتف الاجتماعي قاصراً، وغير كفيلٍ، وحده، بتصويب هذا الحال المؤلم والواقع المأساوي للمسنين، كونهم أكثر ضحايا العزلة والكآبة والوحدة. ولا يكفي، بأي حال، استنفار مشاعر البر والإحسان الموسمية المتعلقة بالمسنين، لأن الرهان عليها ليس مجدياً في أحوال كثيرة، بل لا بد من إيجاد تشريعاتٍ، أكثر فعالية لغايات حمايتهم ورعاية مصالحهم.
ومن الأهمية بمكان أن نعيد النظر في الاحتفالية المفرطة بفتوة مجتمعاتنا، وبالأغلبية الشبابية فيها، حيث لا نتائج عظيمة، ترتبت على هذه الحقيقة الديموغرافية المجردة، ولا بد من إعادة الاعتبار إلى تلك الفئة المتروكة، واحترام منجزها، وتحفيزها باتجاه منطقة الإنتاج والعطاء والتفاعل، والأهم بث روح الأمل فيها، وتوعيتها بضرورة التصرف كأصحاب حق علينا جميعاً، وليس كمتسولين ينتظرون صدقة الرأفة والأمان على عتباتنا.

 

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.