شهقة

19 يونيو 2015
ذاكرة الأطفال مرعبة (Getty)
+ الخط -
سمعتُ شهقتها في غفلة من نومي، يومها علمتُ أن أمي تبكي أيضاً، أمي التي قطعت شوارع كثيرة فقط لتكون قلب غابة ونهر، أمي التي رمت بمفاتيح كثيرة ولم تملك يوماً مفتاحاً واحداً، أمي التي أخذها الطريق حافية بلا أحذية ولا زاد غير قلبها النهر -نعم قلب أمي كان نهرا عذبا-، أمي دفعت بدمعها نحو النهر لذا ذاب الملح وتحول إلى ابتسامة حنونة لا غير.. ابتسامة سكنت ثغرها.

ذاكرة الأطفال مرعبة أحيانا تستطيع أن تبتلع حياة كاملة وتخبئها في مكان قصي من القلب، هناك تنمو وتلد أطفالها على شكل ابتسامة وفرح مفاجئ أحيانا وأحيانا على شكل وجع لادغ ينخر عظام القلب كل حين، اليوم عندما أفكر لم أبكِ كثيراً، يُخيل لي أن تلك الشهقة قد سكنتني وتحولت إلى جنية بكاء.


اليوم عندما أفكر في أمي وكيف طوت عمرا كاملاً، وفي علية قلبها خبأته، تزوره آخر الليل كسارق، أفهم تلك الشهقة، أفهم لماذا ما زالت تشق صدر الليل والنهار وكل وقت كناي، أفهم كيف تدلت من ذاكرتي كأغنية حزينة.

صار لتلك الشهقة ميعاد مع استيقاظي فيما بعد، وكأنه صار للفجر صلاة غير الصلاة، أمي التي تقضي ثلث الليل وهي تغزل الصوف أو تنسج شيئا من الأغطية لإحداهن، لا تطلب شيئا من (الله) غير (الستر) تطلبه كثيراً وبإلحاح.

الستر للنساء الوحيدات يبدو شيئا عظيما، هنا في الجنوب الرجال قوامون على النساء حتى الصعاليك منهم والنساء اللواتي قطعن الطريق وحيدات خاليات القلب إلا من الكدمات، عليهن أن يطلبن ستراً كثيراً من الله، فالشوارع ستكون ممتلئةً بالوحوش، الوحوش الذين يقفون وراء كل باب، باب يبدو مغلقا، يتصيدون مشيتك وكلامك ورفقتك، يتصيدون ما يعيرونك به وهم يشربون الشاي غير مهتمين بمعنى أن تكون علكة رخيصة على لسان أحدهم.

أمي امرأة قوية تنسج الأغطية الصوفية، تغني أهازيج البدو ما كانت تحفظ وما كان من اختراعاتها -لنساء البدو عادة الغناء والقلب غارق في ملحه- أمي امرأة خارقة تطبخ، تكنس، تذهب للسوق وتراقب حبر أقلامنا.. أمي الأمية وجدت حيلتها لتعرف إن كان أطفالها طلاباً جيدين، أمي الأمية كانت ترى في الكتب نجاة ما، تتحسر لأن أجدادنا رعاة لم يهتموا يوما للكتب.

أتذكر أني كنتُ في الصف الخامس وأحدهم أخبرها أنه رآني ألعب خارج المدرسة، أتذكر كيف اقتحمت علينا القسم، كانت تلهث، وعندما لمحتني في مقعدي الأخير كعادتي ركضت نحوي وقبلتني، أصدقائي في القسم ضحكوا، معلمي "سي بلقاسم الطنفوري" لم يقل شيئا، أنا لم أغضب من أمي فقط شعرتُ بفرح ما زلتُ أجهل سره.

(تونس)
المساهمون