العودة: سارق المشمش صار حارسًا
إضافة إلى ذلك؛ يمكن أن نلمس لحظات صمت خلال السرد، واللافت أن تلك اللحظات تبدأ حينما تظهر ملامح "الذاكرة المضادة" في الرواية. على سبيل المثال؛ في سياق حديث أبو سليمان عن البيئة المسالمة التي ميّزت قالونيا، يذكر أنه لم تقع هنالك حوادث قتل إلا مرّة واحدة، وكانت على خلفيّة بيع أراضٍ لليهود، لكنّه يستدرك قائلًا إن ذلك الاتهام لم يكن محقًّا تمامًا، وإن القتل حدث عن طريق الخطأ. في سياق آخر، تذكر أم سليمان، خلال حديثها، ودون سؤالها عن الأمر، أنها كانت أحيانًا تمرّ مع والدتها عبر إحدى الأراضي، فتسمعها تقول: "يا حسرة هاذي الأرض مبيوعة.. باعوها السماسرية".
في المقابل، يشير أبو سليمان إلى أن بعض أهالي البلد كانوا أحيانًا "يضحكون على اليهود" (يخدعونهم)، بمعنى أنهم يأخذون منهم عربونًا على أرض لا يملكونها، رغم ذلك، يشير إلى دور للسماسرة في عمليّة البيع، أحدهم كانوا يسمّونه في قالونيا "شلومو"، وهو الوحيد الذي لم يهجّر من أهل القرية، ولا يزال يعيش مع عياله داخل إسرائيل إلى اليوم.
يمكن أن نلحظ وجود لحظات صمت وتناقض معيّنة في هذا السياق، وحديثًا في غاية الحساسية، قلّما نسمعه من الرواة، عن تسريب للأراضي. في الواقع؛ تظهر بعض السجلات أن حوالى ألف دونم قد تمّ تسريبها للصهاينة (ربع الأراضي تقريبًا)، رغم ذلك، لا يزال الأمر مسكوتًا عنه إلى اليوم. يقول أبو سليمان إنهم شكّلوا لجنة لمحاسبة من باع أراضي من أهل القرية بعد الهجرة، لكنّهم لم يصلوا إلى شيء.
لا شكّ في أن هذا الأمر يشكّل حساسية كبيرة، وقد يصعب تداوله في السياق العام، يصبح الباحث هنا في موضع مساءلة ما بين الموضوعية المعرفيّة وبين الانتماء الوطني، لكن ذكر الرواية كاملة، أحيانًا، قد يساهم في تحصينها من الثغرات؛ الرواية الكاملة، بكافة الجزئيات ومواضع الضعف، بوسعها أن تكون حجّة بذاتها، وأن تدافع عن نفسها في القضايا الإنسانية المحقّة، وهو أمر يتّفق معه حسن مغامس، وفضل الخالدي، ورندة ناصر، في بحثهم عن دور النساء في التكيف والبقاء في السنوات الأولى بعد التهجير، حينما يقولون: "الخطر الأكبر هو في تغيير الرواية الفعلية، لأن الآخر سيسهل عليه إيجاد الثغرات الفعلية فيها ومن ثم نبدو وكأننا نزور التاريخ في الجزئيات، وسيكون صعباً إقناع العالم بأننا لم نروِ الرواية كاملة".
إذا أمعنّا النظر في الروايتين المطروحتين جيّدًا، كاملتين غير مجتزأتين، فمن الممكن من خلال الشهادة ذاتها الردّ على المزاعم المضادة؛ إذ من الواضح أن عمليّات البيع تلك كانت تتمّ عبر أفراد انسلخوا عن الجماعة، وأن مشغّليهم كانوا يهودًا؛ من الواضح، كذلك، أنه في بعض الأحيان وظّف اليهود مشاعر الخوف والقلق التي أحدثتها عصاباتهم لحثّ الناس على البيع والرحيل، إذن هي، رغم محدوديتها، تظلّ عملية نهب لا عملية شراء.
المثير في التاريخ الشفوي أنه يمكّنك أحيانًا من الاطّلاع على سرديّة الآخر أيضًا، فمن خلال احتكاك أهل القرية مع اليهود، أصبحت ثمّة روايات صهيونية تتداول على ألسنتهم أيضًا، وهي تجسّد الفكر السائد لدى المستوطنين في ذلك الوقت. يذكر أبو سليمان، مثلًا، أن اليهود كانوا في موسم الحجّ يسخرون من العمّال الفلسطينيين لديهم قائلين: "بكرا انتا بتخج والحمار تبعك بخج (يحجّ)"، إشارةً إلى أنّهم سيتركون البلاد ولن يعودوا إليها أبدًا، وأن المكان الطبيعي لهم، كعرب ومسلمين، هو أرض الحجاز. هذه الرواية، التي من الواضح أنها متجذّرة تمامًا، لا تتجسّد على المستوى الشعبوي فحسب، بل هي راسخة حتّى في الأيديولوجيّة الصهيونية التي تعتقد أن سكان هذه الأرض ما هم إلا عرب رحّل، وأن المكان الوحيد لليهود هو فلسطين، بينما "لعرب" فلسطين أمكنة كثيرة حتى يذهبوا إليها. تلك الرواية كذلك تمثّل دلالة واضحة على أن فكرة الاقتلاع إذ كانت سائدة لدى القيادات الصهيونية، فإنها كانت سائدة أيضًا في أوساط المستوطنين "اليوميّين".
كانت أم سليمان تسمع هذه العبارة على لسان جارهم اليهودي في الأرض، أبرام بيغش (ابراهام بيرش). هذا الأخير كان في العادة يسرق من المشمش المطلّ على أرضه، وحينما تنهر عليه فاطمة الخطيب (والدة أم سليمان) كان يجيبها بعربية مكسرة: "غوخ (روح)، انتا بكرا بيغوخ عالحجاز وهادا كلو بصير الي".
بعد حوالى عشرين سنة، عقب احتلال إسرائيل لكامل الأراضي، إبان نكسة عام 1967، أصبح الوصول إلى قالونيا ممكنًا، يومها عادت الحاجة فاطمة الخطيب وأولادها إلى قريتهم المسلوبة، للمرة الأولى. أخذتهم إلى أشجار أرضهم، وهناك صادفهم حارس يهوديّ ببندقيته صارخًا "مين بيسرق؟". سرعان ما أدركت الحاجة فاطمة أنه ابراهام بيرش نفسه، سارق المشمش القديم. نظرت إليه وقالت: "ابرام، متذكرني يا ابرام، أنا الحاجة فاطمة كايد الخطيب، اطلع فيي، هاي أرضك؟ قلي هاي أرضك؟ الله يا ابرام، أنا بدي ابصملك بالعشرة، كل هاي الأرض صارت إلك". أخفض أبراهام عينيه إلى الأرض وأجاب: "طب اتفرج بس مش بيسرق". تلك كانت آخر مرة ترى فيها فاطمة الخطيب قالونيا. تقول أم سليمان إنها ذهبت إلى أطلال بيتها المهدم، وراحت تبكي الحجارة، وتبكي الراحلين: "وينك يابا، وينك يا عمي، وينك يا خالي"، ثم عادت إلى المخيم، بعد أن أخذت ما استطاعت من الثمار، وحجرًا من حجارة البيت، كانت دائمًا ما تضمّه إليها وتهزج :"بلادنا يا حنونة ليش جافيتينا، حني علينا من بلاد الغرب خذينا". تغيّر حالها منذ ذلك اليوم، تقول أم سليمان، وظلّت كذلك حتى توفّيت.
لا نقول مثل هذه الجزئيات لمجرّد الحكاية، أو استدرار العاطفة، بل لنحيل إلى ما تحمله من رمزيّة وقوّة، ومن أثر إنساني. لعلّنا نستعيد هنا قيمة الأرض التي تتجسّد في خطبة الزعيم الهندي سياتل: "الأرض هي الحياة". في الحالة التي ندرسها، تتجلّى هذه المقولة في هذه القصّة العفويّة والبسيطة جدًّا. لقد تركت رؤية الحاجة فاطمة أرضها مسروقة غصّة في صدرها تشبه الموت، يومها ربّما تجاوزت مرحلة الإنكار التي عاشها الفلسطيني بعد النكبة، أو بالأحرى، يومها بالذات لم تعد تصدّق وعود الثوار والعرب لها بالعودة، غدًا أو بعد غد، وصدقّت أبراهام بيرش.
بين الباحث والحفيد
أخيرًا، بعد كلّ هذا السرد والتحليل، يبقى أن أكشف أن كلا الراويين تجمعني بهما علاقة قرابة مباشرة؛ فهما جدّي وجدّتي. لكنّ المثير في هذه التجربة، هو أنني أسمع للمرة الأولى هذه الحكايات وأنا أتقمّص شخصيّة "الباحث"، وليس الحفيد. كانت مثل تلك القصص تروى في جلسات العائلة بشكل عابر، من دون التطرق إلى التفاصيل. كان جدي، أبو سليمان، يتحدّث عادة عن مغامراته الصباحية وهو ذاهب لتجارة الحليب، وجدّتي تغنّي وتهزج ما تتذكره من أهازيج البلاد. لكن من خلال السؤال والحث، سمعت أموراً تروى للمرة الأولى، وهذا اللافت في الموضوع؛ كان جدي، مثلًا، يحدّثنا عن بندقيته الإنكليزية التي حملها ومضى يحرس بها البلدة مع الثوار، لكنه لم يقل، ولو لمرّة، إن أولئك الثوار كانوا منقسمين بين منظمتين: واحدة اسمها "النجاد"، والأخرى اسمها "الفتوة"، هذه الأخيرة أسسها صاحبها حينما لم تعجبه قيادة غيره للفصيل الآخر، فقال لنفسه، حسب رواية أبو سليمان، "إذا هو زلمة أنا كمان زلمة". المصارحة في مثل هذه الأمور، وفيما يتعلق ببيع الأراضي أيضًا، لم تكن تحدث من قبل، كانت معظم الروايات سابقًا تجسّد الاستعادة الحنينية للبلاد فحسب.
ربّما أكون قد توصّلت لتلك الحقائق من خلال السؤال والحث، لكنّ بعضها ورد خلال السياق من دون توجيه منّي، وهذا انطبق على كلا الراويين على السواء. ربّما ثمّة أمور كثيرة كانت مؤثرة في ذلك، لكن الادعاء الذي من الممكن سوقه هنا؛ هو أن هذا الجيل حينما كبر وبات أكثر انعزالًا عن السياق العام، وبعيدًا عن التنظيمات والأحزاب والرّوايات الرسمية؛ بات أكثر عفويّة وصراحة. اليوم قلّت القيود على الرواية المحكيّة، هذا ينطبق، على الأقل، على النموذج الموضوع بين يدينا.