حين يجري الحديث عن أدب السجون في الثقافة العربية، يبدو الأمر كما لو أنه أدب يكتبه الرجال، رغم أن السجون في مصر والعراق وسورية والمغرب وغيرها من البلدان العربية، لم توفر المرأة المعارضة اعتقالاً وتعذيباً وتنكيلاً.
ربما تكون أشهر كتابات النساء عن تجربة السجن السياسي؛ عمل نوال السعداوي "مذكراتي في سجن النساء"، و"السجينة" لمليكة أوفقير، و"أيام من حياتي" لزينب الغزالي و"خمس دقائق وحسب.. تسع سنوات في السجون السورية" لهبة الدباغ، و"نيغاتيف: من ذاكرة المعتقلات السياسيّات" لروزا ياسين حسن. إلى جانب أعمال كتبت في سجون الاحتلال الإسرائيلي مثل "أحلام بالحرية" لعائشة عودة.
وإن كانت هذه الكتابات قد ألفت معظمها نساء مبدعات، أي أن الكتابة هي أيضاً صنعتهن، فإن هناك نساء صاحبات تجارب في السجن السياسي دون أن يكن صاحبات تجارب تمكنهن من الكتابة عنها، في هذا السياق يأتي دور ورش الكتابة التي تحاول تمكين هؤلاء النساء من تدوين شهاداتهن، ومنها تلك التي ساهمت في تكوين كتاب "دفاتر الملح: تونسيات عن تجربة السجن السياسي" الصادر مؤخراً عن منشورات "كلمة" بإشراف "المركز الدولي للعدالة الانتقالية" وبتعاون مع جامعة بيرمنغهام، والذي سيجري إطلاقه الساعة السادسة من مساء اليوم بفضاء "غاية" بـ"توينزيا مول" في تونس العاصمة.
أعدت الكتاب الكاتبة العراقية هيفاء زنكنة (1950)، التي صدّرت له بتمهيد تحت عنوان "الكتابة الإبداعية.. نسيج السجن غير المرئي" تحكي فيها قصة العمل منطلقة من فكرة بسيطة مفادها "أن تكتب النساء قصصهن بأنفسهن ولا يُكتفى بما يكتب عنهن بالنيابة". في حين كتب المقدمة الكاتب والأكاديمي التونسي شكري المبخوت تحت عنوان "فتح أرشيف الوجع التونسي"، كما وضعت سلوى القنطري مقدمة أخرى بعنوان "أصوات الذاكرة".
تلفت زنكنة في تقديمها إلى "غياب صوت السجينة السياسي على الرغم من وجود مئات النساء المعتقلات من انتماءات مختلفة في حقبتي حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة والرئيس المخلوع زين العابدين بن علي"، وإذ تجد زنكنة أمر هذا الغياب، فذلك لأن "الانطباع العام السائد عربياً وعالمياً أن المرأة التونسية متقدمة سياسياً وثقافياً على نظيراتها من بلدان عربية أخرى".
الكتاب جاء نتيجة مسار 17 امرأة تونسية للحديث عن تجاربهن مع الديكتاتورية في إطار مشروع "أصوات الذاكرة" وفقاً للقنطري، التي تؤكد أنه لم يجر سابقاً "تقديم حكايات النساء وتجاربهن مع القمع ومفهوم الضحية وكيف ناضلن للحفاظ على حد أدنى من الحياة العادية".
يتكوّن الكتاب من ثلاثة أجزاء هي "ها أنا أرى"، و"كل هذا وأنا أتوق إلى النهار" و"شهادة: تونس بألوانها". يبدأ القسم الأول بشهادة خديجة بن صالح التي لم تكن سجينة داخل المعتقل، بل خارجه، فهي واحدة من أنصار الحركة الإسلامية وكانت ملاحقة ومطالبة بالمثول دائماَ في مراكز الأمن حيث تتعرض للتعنيف اللفظي، قبل أن توقع على تعهد بعدم ارتداء الحجاب. أما ميلان حامي فتكتب عن تجربة أن تكون ابنة معارض منفي أو هارب، وعن عنف وفاة جدّها والحضور الكثيف لرجال الأمن في الجنازة، وفي نصها تكشف عن تحوّل هؤلاء إلى رجال الخوف بالنسبة إليها ولكثيرين مثلها، إنه نص عن العنف النفسي والترهيب الذي تعرضت له طيلة حياتها كابنة معارض.
أما نها الديماسي فتروي الحكاية الأخرى لطفلة اعتقلت والدتها أمامها وتجربة العيش كابنة معتقلة سياسياً ثم رد الفعل الرافض للأم من قبل أبنائها بعد خروجها من السجن.
في هذا الجزء نصوص سلافة مبروك التي تصف تجربة اعتقال أخيها، وسوسن مقادلة التي تتناول قرار ارتدائها الحجاب بعد الثورة ورواسب الخوف القديم منه في عائلتها، أما شهلة المحجوبي فتطرّقت إلى معاناة المرأة التي يُعتقل زوجها، وكذلك كتبت حسنة بنعبيد عن تجربة زيارة زوجها المعتقل ما بين 1984 و2011، إلى جانب شهادات عن التضييق والسجن والانتظار كتبتها جمعة محمد بنعلي وهنيدة جراد.
في الجزء الثاني من الكتاب، نقرأ شهادة حميدة عجنقي التي تروي كيف تمتد يد الجلاد إلى أبسط تفاصيل زفافها فتخربها، كانت اعتقلت مع خطيبها عام 1991، وخرجت قبله وانتظرته للزواج عام 1996، ومن خلال تناول الخوف المبطن في التفاصيل تحكي سلطة القمع حتى حين لا تكون حاضرة مادياً، فهي منثورة في كل شيء مثل الهواء وحتى بين الإنسان وأهله أو من يحب.
أما مليكة الميساوي فتحكي كيف بنت خيمة من برنس زوجها أمام السجن في انتظار موعد الزيارة، وكيف أخافت هذه الخيمة حراس السجن، فيما تقص نصاف الشريف قصة اعتقالها وهي حامل عام 1992 واعتقال زوجها، لتروي من خلال ذلك المسؤولية التي وقعت على عاتق والدتها في إدارة الحياة خارج السجن لكليهما. بوراوية عكاري تشارك بنص حول تجربة التحقيق معها بعد اعتقال زوجها، والإهانة والتنكيل الذي تلقته خلال ذلك.
هناء عبدولي قدمت شهادتها حول أحداث انتفاضة الخبز في تونس عام 1984، والاشتباكات الدامية بين البوليس والطلبة، والاعتقالات وزيارات الأمهات. أما شفيقة بن حمودة فتناولت تجربة اعتقالها واعتقال رفيقتها واغتصابها أمام زوجها. نجاة القابسي قدمت إحدى الشهادات القليلة التي تناولت حياة النساء داخل السجن وتفاصيل العيش اليومية فيه، وتفاصيل المثول أمام القاضي والطريق إلى السجن وكذلك فعلت عواطف المزغني، حيث تناولت الاثنتان تجربة الاعتقال عام 1992.
في الجزء الأخير من الكتاب تروي منيرة بن قدور التومي تجربة الحجاب قبل وبعد الثورة، واكتشاف ما كانت تلاقيه النساء المحجبات أو المحافظات من انتهاكات لم تعرفها إلى عام 2012، متطرقة إلى صعوبة ممارسة التديّن ورواسب الخوف لدى الناس من الشخص الذي يعبر عن تديّنه من خلال الملابس والسلوك.
وإن كانت معدّة الكتاب هيفاء زنكنة قد عُرفت ككاتبة سياسية وروائية وقاصة أصدرت مؤلفات عديدة بالعربية والإنكليزية، فإن عملها هذا وعملا آخر سابقا قبله أنجزته مع الأسيرات الفلسطينيات؛ يشكلان إضافة نوعية لمسارها ككاتبة ومناضلة سياسية تجمع بين العراق وفلسطين وتونس وساحات عربية أخرى.