تمرّر المرأة الشابة يدَيها فوق شعلات الشموع، قبل أن تمسح وجهها. مرّة.. مرّتين.. ثلاث مرّات. تسوّي المنديل الأزرق الذي يغطّي بعضاً من شعرها الأسود الطويل، قبل أن تعيد الكرّة مرّات ثلاثاً. وتدعو. تدعو لابنتَيها الصغيرتَين اللتَين تركتهما هناك في الوطن، مع والدهما. اضطرت إلى ذلك. لا بدّ من تأمين مستقبل لائق لهما. هنا، في لبنان، تستطيع جمع المال اللازم لدراستهما، ولاستكمال بناء منزل العائلة. في بلادها، المرأة هي المعيلة الأساسيّة.
عشرات الشموع أضاءتها ورفيقات لها، صباح الأحد الماضي، وقد قصدنَ باكراً ذلك المزار محمّلات بأكياس من الشمع. وامتلأ الحوض بشعلات برتقاليّة وزرقاء تتمايل مع نسمات الصباح. المزار يقع في منطقة جبليّة.
في صبيحة كلّ يوم أحد، تتوجّه المرأة الشابة مع رفيقاتها، للصلاة فيه. الأحد هو يوم عطلتهنّ الوحيد. هنّ سريلانكيات يعملنَ في الخدمة المنزليّة. إليهنّ، تنتظر عاملات إثيوبيات أيضاً، مع مناديلهنّ البيضاء، دورهنّ لإضاءة الشموع التي حملنَها معهنّ.
في باحة المزار، حيث تنتصب أشجار سرو وشربين، مؤمنون يتوزّعون على مقاعد خشبيّة. في هذه الساعة المبكرة، لا تزدحم الساحة بهؤلاء. على أحد تلك المقاعد الخشبيّة، يجلس شاب ثلاثينيّ وقد وضع رأسه بين يدَيه. قبل أسابيع، خسر وظيفته. يدعو الله أن يفرّج همّه. المسؤوليات الملقاة على عاتقه كثيرة وثقيلة. لا بدّ من مدخول ثابت، وإلا تحلّ الكارثة.
ليس بعيداً، امرأة ستينيّة، حافية القدمَين، تدور حول المزار. تتمتم صلوات وأدعية. ابنتها الوحيدة تخسر جنينها كلّما حملت. ستّ سنوات، والفشل "نصيبها". الأطباء عاجزون عن تفسير ذلك، أو هكذا يبرّرون إخضاعها إلى عمليات تلقيح اصطناعيّ. الحلّ بالنسبة إليهم هو "أطفال الأنابيب". أمّا هي، فما زالت عاجزة عن الاحتفاظ بالأجنّة. تدعو الأمّ الله، لعلّ أعجوبة تنجّي ابنتها من محنتها.
في داخل المزار، بعض المؤمنين. في الممرّ، يجثو رجل سبعينيّ على ركبتَيه. يفتح ذراعَيه وقد رفعهما إلى الأعلى، فيما يذرف دموعاً غزيرة.. لا يمسحها. ويتنهّد مكرّراً "يا رب!". ابنه البكر - أربعينيّ - غارق في المخدّرات. لم تفته وسيلة إلا وجرّبها، لإبعاده عن تلك "السموم". أنفق كلّ مدّخراته لعلاجه.. عبثاً. عجز عن انتشاله من شرّها. أُنهِك. لم يعد يثق في الطبّ. وحدها أعجوبة إلهيّة تعيد ابنه إلى صوابه وإليه وإلى عائلته.. زوجة وثلاثة أولاد أكبرهم في السابعة من عمره.
"لا يجوز لمؤمن اليأس من رحمة الله". قالها صديق في يوم. هؤلاء لم ييأسوا بعد. يحملون إيمانهم.. ويشعلون الشموع.. ويدعون.