شكيب أرسلان.. ارتسامات لطاف من لوزان إلى أقدس مطاف

07 ابريل 2018
(حجاج يصلون إلى ميناء جدة عبر البحر سنة 1900)
+ الخط -

هي بالفعل، كما يشير إلى ذلك عنوان الرحلة ارتسامات لطاف، وقد أرادها الأمير شكيب أرسلان، (1869-1946) الذي كان فارا بنفسه من مطاردات الفرنسيين في لبنان خلال تلك الفترة، إلى لوزان في سويسرا، أن تكون "خواطر حاج"، هو الذي حاول أكثر من مرة أن يحج إلى بيت الله الحرام، لكن الظروف لم تسعفه، وقد أثناه عن ذلك توارد أخبار السطو على قوافل الحجيج من قبل عصابات تسلبهم زادهم ومالهم وتفتك بهم.

لكن أمير البيان، كما كان يلقب، سيجمع أمره ويقرر أن يقوم بالرحلة، سنة 1929، بحرا انطلاقا من مدينة لوزان في سويسرا حيث يقيم، وشمل مسار الرحلة نابولي الإيطالية وبورسعيد في مصر، والمرور من قناة السويس، ثم الوصول إلى بحر رابغ (الأحمر)، وأخيرا تنتهي الرحلة البحرية في جدة، ثم يزور مكة والمدينة المنورة والطائف حاجاً.

يكشف كتاب الرحلة الحجازية المسماة "الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف" موسوعية الأمير شكيب أرسلان، وثقافته العالية، وتمكّنه من بديع الكلام، وأسلوبه الشيق في الحكي والسرد، وعينه النقدية اللاقطة التي تذهب إلى تفاصيل دقيقة، وتسوق مفارقات بين الحياة الأوروبية، والحياة في شرقنا "المتخلف".

ومن هذه المفارقات ما يتعلق بتدابير وأجواء الرحلة، التي كانت هانئة وسلسة من إيطاليا إلى مصر، لكن بمجرد الوقوع في بواخر قناة السويس، حتى انقلب النظام والهدوء رأسا على عقب، وحلت محله أجواء من الزحام والفوضى، بين الركاب والحجيج، وإن لم يعدم الأمر أجواء إيمانية وأدعية تلبية. ولأن هذه الرحلة تعود إلى سنة 1929، فهي من حيث أهمية زمنها التاريخي، تعطي لمحة واضحة عن ذلك العصر لقارئ اليوم والغد.

كما أنها من حيث الوسائل التي استعملت فيها (رحلة بحرية إلى الحج)، تقدم جديداً لم يكن مألوفا في رحلات الحج العربية الأخرى، والتي كانت تتم براً، خصوصاً ما كتبه الرحالة المغاربيون وحكايتهم مع قطاع الطرق والتزاوج وضمور القوافل بسبب موت كثيرين في الطريق إلى البيت العتيق.


سحر ميناء جدة

يفتتن رسلان، أشد الافتتان، وهو يراقب الأجواء داخل الباخرة، والتي من المتوقع أن ترسو في ميناء جدة. وهو في ذلك، يحث ذاكرته التسجيلية على معاودة توليد الأحدث كما شاهدها. فهو في الحقيقة، كان في صدد تأليف كتاب آخر، عندما عنّ له أن يوقف تأليفه ذلك، والذي كان عن رحلته الأندلسية، والتفرغ على وجه السرعة لكتابة وتدوين رحلته الحجازية إلى الديار المقدسة المباركة.

يكتب "ومازال الناس مستشعرين الخشوع تلك الليلة، مواظبين على التلبية، مترقبين طلوع الفجر الذي يدنيهم من جدة، ميناء البيت العظيم الذي يؤمونه، إلى أن انفلق الصبح، وأخذت تبدو جبال الحجاز للعين المجردة، فارتفعت الأصوات بالتهليل والتسبيح والتكبير، وازداد ضجيج التلبية للعلي الكبير، وخالط الهيبة والخشوع والقدوم على البيت الحرام، الفرح والابتهاج بالوصول إلى أطهر بقعة وأقدس مرام، ولم تكن ترى إلا عيوناً شاخصة، ولا تحس إلا قلوباً راقصة، والجميع متطلعون إلى سواحل الحجاز منتظرين ببالغ الصبر أن يقبلوا على جدة. فلما كان ضحى اليوم الرابع من ذي الحجة دخلت الباخرة مرسى جدة، لكن بتؤدة عظيمة لما في هذا المرسى من الجبال والصخور التي تكاد رؤوسها تبرز من تحت لجج البحر وإذا بخمس عشرة باخرة راسيات في ذلك الميناء على أبعاد متفاوتة من البر".

وقد فتنته مياه بحر جدة، حتى أنه كتب فيها واصفاً بحرها وصفاءه، مفضلاً إياه عن كل البحار الذي ارتحل فيها، من المحيط الأطلسي إلى البحر الأسود إلى الأبيض المتوسط، يقول "فلقد طفت كثيراً من البحار وعرفت أكثر البحر المتوسط والبحر الأسود وبحر البلطيك وبحر المانش والأوقيانوس الأطلانتيك، ولم يقع بصري على شيء يشبه مياه بحر جدة في البهاء واللمعان. كنت كيفما نظرت يمنة أو يسرة أشاهد خطوطاً طويلة عريضة في البحر أشبه بقوس قزح في تعدد الألوان، وتألق الأنوار، من أحمر وأزرق وبنفسجي وعنابي وبرتقالي وأخضر إلخ. ولا فرق بين هذه الخطوط وبين قوس قزح سوى أن هذه الخطوط مستقيمة، وإن هذه في السماء، وهاتيك في الماء".

حُقّق كتاب "الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف" عدة مرات، وصدر في طبعات كثيرة، وهذا طبيعي جدا بالنظر إلى مكانة صاحبه في ثقافة التنوير العربي.


ذاكرة تسجيلية

لم تفارقه أطياف الحجاز، ولعله ولع ببشرها وأرضها، لما لها من تاريخ ورمزية كبيرة في الوجدان العربي العام.

يكتب واضع مقدمة الرحلة أيمن ياسين حجازي "وفي حركته عبر الجغرافيا الحجازية والنجدية يصف الأمير شكيب في رحلته كل ما وقع نظره عليه، فلا يكاد يرى قرية أو وادياً أو جبلاً أو سهلاً إلا وصفه لنا أدقَّ الوصف، فذكر محاسنه وعيوبه والأحوال المعيشية فيه والقاطنين به، وما دار به من أحداث في الماضي والحاضر؛ ولم يفته أن يطلعنا على ما تحتويه كل منطقة من معادن ومقدرات وأماكن وجودها وكيفية العمل على استخراجها".

ويبين حجازي الفارق بين رحلات الآخرين إلى الحج وبلاد الحجاز ورحلة شكيب أرسلان، في امتلاكه خزانا معرفيا كبيرا ومنوعا وعميقا، يقول " وقد أورد الرحَّالة معلومات جغرافية عن المنطقة ذات أهمية كبيرة تزيد القارئ معرفة بتضاريس تلك المنطقة وأحوال سكانها وخيراتها. ولما كان أرسلان يتمتع بثقافة تاريخية واسعة وذخيرة معرفية وفيرة فقد بثَّ في سطور رحلته معلومات غزيرة حول تاريخ الجزيرة العربية على مرِّ العصور معرّجاً على أهم الأحداث والمناسبات التي كان لها الأثر البارز في تاريخ المنطقة، فتناول مياه الحجاز وعمرانه ومياه مكَّة منذ الجاهلية وفجر الإسلام حتى العصر العباسي، وبيَّن لنا كيف بذلت زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد جهوداً كبيرة في جرِّ هذه المياه من وادي نعمان إلى مكَّة، وتكلَّم عن سوق عكاظ وعن آثار الحضارة العربية في الطائف، والكثير غير ذلك، ممَّا جعل للرحلة أهمية تاريخية بالغة الأثر".


اللذة مختلفة

في رحلة أرسلان، استعمال للغة العين والقلب والبصيرة، وللمعرفة العلمية، أليس المقام مقام حج؟ وهو حين يتحدث عن الماء، يفصل في الأمر، فيتحدث عن الفرق بين لذة الماء والخضرة في البلاد الحارة عن غيرها من البلاد الباردة. فمزنة واحدة في البلاد الحارة، مثلا قد تسيل لها الأودية، تمطر نصف ساحة، فتربو الأرض وتهتز. وقد تذهب بالحيطان والماشية وتغتال القوافل والسابلة، ثم تعود الأمور في لحظة واحدة إلى ما كانت عليه، وتختفي الأنهار والمياه الجارفة، فكأن الأرض قد بلعتها. "وكأنه لم يمر من هناك ماء ولم تمطر سماء"، على حد تعبير شكيب أرسلان.

ويذكر في هذا المقام وادياً في الطائف اسمه: وجّ، إذا سال شبعت الطائف وكل جوارها، وهو لا يسيل في السنة إلا مرة أو مرتين، وخلال تلك الفترة سوى ساعة أو ساعتين. وهو طبقاً لذلك، يرى أن الماء في الحجاز أغلى وأثمن من الذهب نفسه، وعليه تقوم حياة هؤلاء الناس وتجارتهم وما به يكونون.

وهو هنا، في موضوعة الماء، يقيم الفروق بين البلاد العربية الحارة في مجملها، والبلاد الأوروبية الباردة، ويعترف بأن الندرة تعلّم فن التمتع وتفتح النفس، فلا لذة يجدها الإنسان في الظل الظليل إذا كانت الشمس محجوبة طيلة الوقت بالغمام، وكذلك شأن الماء الوفير شلالات ووديانا في جو شديد البرودة لا يتيح لك التمتع بوارف الظلال ولا بعذب الهدير.


ذاكرة الماء

ما يسجله أرسلان هو عنصر الماء، ذاكرته المائية تشتغل جيداً، فقد توقف عند شح المطر في الحجاز، وبعذوبة يصف ذلك، يقول "إنه في سائر البلاد لا تبدو من الماء هذه النزارة والكزازة التي تبدو منه في الحجاز، وأينما تحولت تجد عيونا جارية، وأودية سائلة، وأحيانا تجد أنهاراً مثل البحار، وبحيرات تسير فيها السفن الكبار. هذا والأمطار في بعض البلاد تسحّ في أشهر الشتاء سحّا، لا يُخشى معه ظمأ ولا قحط، وقد تشحّ آونة لكن شحّاً لا تنضب به العيون، ولا تجف الآبار، وإنما تنقص نقصا قد تنقص معه الثمرات، وتذبل الأشجار، وتذوي الزروع، ولكن لا يقتها العطش هذا القتل الوحي، الذي يقتلها في الحجاز". ويضيف "وأما الحجاز فالغيث فيه قلما يعم، وأكثر ما ينزل نفضا، وهي المطرة، تصيب القطعة من الأرض وتخطئ القطعة، فإذا أصابت النفضة أرضا زهت تلك السنة وأثمرت وعاش أهلها.


توضيحات الكاتب

في مقدمة كتاب رحلته إلى الحج، يضع أرسلان القارئ في الصورة العامة لهذه الرحلة، التي تتخذ خطا غير مألوف بالنسبة للعربي المسلم، من الغرب إلى الشرق، ومن البلاد الأوروبية إلى بلاد الحجاز.

يقول: "الحمد لله الواحد الخلاق، وسبحان الله وبحمده في العشي والإشراق، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة الإخلاص التي نرجو بها الخلاص يوم التلاق، وتهون بها سكرات الموت إذا حشرجت الأنفس في التراق، ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أشرف الخلق على الإطلاق، المبعوث لإقامة الحق والعدل وإتمام مكارم الأخلاق، بكتاب باهر الحجَّة، وسنَّة واضحة الحجَّة، وبراهين كالصبح في الانفلاق، والشمس في الائتلاق، صلَّى الله عليه وعلى آله الغطاريف، وعلى أصحابه الصناديد، وعلى أنصاره الكرام العتاق، الذين نشروا التوحيد المحض في الآفاق، وجمعوا كرم الأفعال إلى كرم الأعراق، ما هبَّت نسائم الأسحار، وتفتقت كمائم الأزهار، وسجعت الورق على الأوراق، وسلم تسليماً كثيراً.

(وبعد) فقد مضت عليَّ حِجج كثيرة وأنا أهمُّ بأداء فريضة الحج، والعوائق تعوق، والموانع من حول إلى حول تحول، إلى أن يسَّر اللّه بلطفه وحسن توفيقه لي أداء هذا الفرض في سنة 1348 أي منذ سنتين كاملتين. فكان قصدي إلى الحجاز من لوزان بسويسرا، عن طريق نابولي بإيطالية، إذ ركبت منها البحر على باخرة إنكليزية إلى بور سعيد حيث نزلت، وفي اليوم التالي ذهبت إلى السويس، ومنها أبحرت إلى الحجاز، في باخرة مكتظَّة بالحجَّاج، فأحرمنا ولبَّينا من بحر رابغ، ووصلنا إلى جدَّة من السويس في اليوم الرابع، على ما وصفت في رحلتي الحجازية التي سيقرأها المطالع. وفي مساء يوم وصولي إلى جدَّة يسَّر الله دخولي إلى البلد الأمين.

مبادراً إلى البيت العتيق بالطواف، وإلى المروة والصفا بالسعي، وبعد ذلك بيومين صعدنا إلى مِنى فعرفة، ثم أفضنا منها إلى المزدلفة، حيث بتنا ليلة، ثم عدنا إلى مِنى حيث لبثنا ثلاث ليال، وعدنا إلى البيت الحرام، وتمَّمنا مناسك الحج، والله يتقبَّل منَّا، ويتوب علينا، إنَّه قابل التوب غافر الذنب العليّ الكبير، لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ويعفو عن كثير.

ولقد وجدت مناسباً أن أنشر ما ارتسم في مخيّلتي من هذه المشاهد، وما انطبع في لوح دماغي من مناظر تلك المشاعر المباركة والمعاهد، مقروناً بما يعنُّ لي من الآراء، مشتملاً على ما عندي من الملاحظات التي أحبُّ أن يطَّلعَ عليها القرَّاء، فأرسلت إلى جريدة "الشورى" بمقالات كنت أنشرها فيها الفينة بعد الفينة، ذاكراً فيها مكَّة وعرفة، ومِنى والمزدلفة، وتلك البقاع المعظَّمة المشرَّفة، ولمَّا كنت بعد ذلك قد صعدت إلى الطائف مستشفياً من سقم أصابني في أثناء أداء الفريضة، كتبت أيضاً عن الطائف وجبالها ومرابعها ومنازهها، وجنانها وكرومها وفواكهها ولم أقتصر في الوصف على جنانها الناضرة، وأحوالها الحاضرة، بل كرَّرت النظر إلى الوراء من أمور تاريخية ماضية، ومددته إلى الأمام في أمور اجتماعية مستقبلة، بحيث جمعت في هذه الرسائل بين مباحث جغرافيَّة وتاريخيَّة، ومواقف سياسية واجتماعيَّة، ومسائل عمرانيَّة واقتصاديَّة، ودقائق لغويَّة وأدبيَّة، متناولاً من القديم والحديث، ومتنقّلاً بين التالد والطريف.

ومن حيث أنّي كنت أصدرها من وقت إلى آخر في جريدة سيَّارة كانت هيئتها أقرب إلى أسلوب الجرائد منها إلى أسلوب الكتب، لأنَّ الكاتب إذا كتب بين أسبوع وآخر متأثراً بالعوامل المختلفة ملاحظاً المتجدِّدات اليوميَّة، مراعياً حالة قرَّائه الرُّوحيَّة، ذهب به الاستطراد كلَّ مذهب، وشردت به شجون القول فشرَّق وغرَّب، ولهذا جاء في هذا الكتاب استطراد ليس بيسير من فصل إلى فصل، وإن كان جميعه مرتبطاً بالموضوع ومردوداً إلى الأصل. ثم رأيت أنَّ إكمال هذا التأليف على الخطَّة التي انتهجتها أولاً من نشره رسائل متفرِّقة على الأسابيع قد يأخذ وقتاً طويلاً ولا ينتهي بأقلِّ من سنتين أو ثلاث، على أنّي صرت مشغولاً مستغرقاً برحلتي الأندلسيَّة، التي قد تأخذ مجلَّدات عدَّة، ولا يتأتَّى لي الاشتغال بغيرها هذه المدَّة، فعدلت مؤخَّراً عن الطريقة الأولى، وقطعت رسائل هذه (الارتسامات) عن الشورى، وانصرفت إلى إكمال هذا التصنيف توَّاً حاثَّاً مطيَّة القلم إلى غايته، ماضياً به بلا توقّف إلى آخره، فكان ما نُشر منه في الشورى نحو الثلث، وما لم ينشر في الشورى ولا في جريدة غيرها نحو الثلثين.

.... هذا ولمَّا تسنَّى إكماله، وبلغ الإبدار هلاله، رأيت أن أتوجَّه باسم جلالة الملك الهمام، الذي هو غرَّة في جبين الأيَّام، عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، تذكاراً لجميل الآمن الذي مدَّ على هذه البلدان سرادقه، وعرفاناً لقدر العدل الذي وطَّد فيه دعائمه وناط بالإجراء مواثقه، وابتهاجاً بالملك العربي الصميم الذي صان للعروبة حقَّها وللإسلام حقائقه، أدام الله تأييده، وأطلع في بروج الإقبال سعوده، وخلَّد شمسه الشارقة ووفَّقه للاتفاق مع سائر ملوك العرب وأمرائها، والعمل مع رجالاتها العاملين لرقيّها وعلائها، ولاسيَّما الملكين الهمامين، الفاضلين الكاملين، الماهدين المجاهدين، المتوكل على الله الإمام يحيى بن محمد حميد الدين صاحب اليمن، والملك فيصل بن الحسين، صاحب العراق والرافدين، أدام الله توفيقهم جميعاً لما به حفظ تراث الأمَّة العربيَّة، وإبلاغها المقام الذي تسمو إليه نفوس العرب الأبيَّة، وحياطتها بوحدة الكلمة من سطوات الغدر، وغوائل المكر، التي لا تفارق حركات الدول الأجنبية، والله تعالى سميع الدعاء، كفيل بتحقيق الرجاء: آمين".

دلالات
المساهمون